بسم الله الرحمان الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الحب روح الايمان للشيخ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم –رحمه الله- في المحبة:
"منزلة المحبة، وهي المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون،
وبرَوحِ نسيمها تَرَوَّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات،
والنور الذي مَن فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه".
قوله: "فهي قوتُ القلوب" أي: غذاؤها الذي تحيا به، "وغذاء الأرواح" فتنمو وتكبر وتتسع، وتنشرح الصدور بحب الله -سبحانه وتعالى-،
"وقرة العيون" إمَّا أنها بمعنى: تستقر، أي: فلا تطمع ولا تتطلع إلى غير ما استقرت به، أو أنها بمعنى تبرد؛ لأن العين الحارَّة باحثة عن شيء فقدته،
فإذا وجدته بردت، فكأن الإنسان لا يزال دائرًا يبحث عن شيء يفتقده كما يبحث البدن عن الطعام والشراب، فكذلك القلب الإنساني؛ يظل باحثًا عن حب الله
-سبحانه وتعالى-، فإذا وجده استقر ولم يطَّلع إلى ما وراء ذلك.
وقوله: "وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات" فكل من لم يجد حبَّ الله -سبحانه وتعالى- فهو ميت،
"والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات" فمن لم يذق حبَّ الله -سبحانه وتعالى- لن يبصر حقيقة هذا الوجود ولا مآل هذه الحياة،
ولن يعرف أعظم ما يُتلذذ به في هذه الدنيا ثم في الآخرة، وهو الشوق إلى لقائه -عز وجل-؛ لأنه نابع من حبه -سبحانه وتعالى-،
ولذة الشوق إلى لقاء الله -عز وجل- من جنس لذة النظر إلى وجهه -سبحانه وتعالى-؛ لأن كلاً منهما ثمرة القرب والمحبة، ومن هنا كانت عبادة الله -عز وجل-
ـ والتي أصلها الحب ـ أعظم ما يتنعم به أهل الدنيا، كما أن أعظم ما يتنعم به أهل الآخرة النظر إلى وجهه -عز وجل- والتمتع برضاه،
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه بين أعظم لذة في الدنيا وأعظم لذة في الآخرة فقال -صلى الله عليه وسلم-:
«وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» [رواه النسائي وصححه الألباني].
وقوله: "والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام"، فحب الله -سبحانه وتعالى- شفاء للقلوب من الأمراض، وبدونها يمتلئ القلب بالكبر
والعُجب والحسد والغِل، وينطق اللسان بالغيبة والنميمة والكذب، وتنحط إرادة الإنسان إلى أتفه الأغراض وأخسِّها؛ لأنه لم يذق حب الله -سبحانه وتعالى-،
فيصبح القلب محلاً لهذه الأمراض، فتجد الإنسان لا يريد من الدنيا إلا الشهوة أو المال أو الشهرة، ولا يريد إلا الأغراض الخبيثة، فيمرض القلب أعظم المرض
بدون حب الله -عز وجل-، وهذا حال القلوب التي لم تعرف طريقًا إلى حب الله -سبحانه وتعالى-.
قوله: "واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام"، فمن لم يجد لذة حب الله -سبحانه وتعالى- فلن يجد إلا التعب والشقاء والنكد،
ويصير عيشه كله هموم وآلام، حتى وإن وجد اللذات الظاهرة؛ فسعادة الإنسان ليست في اللذات الظاهرة؛ لأنها لا تبقى معه إلا لحظات، مثل لذة الجنس
التي يجدها الإنسان ثوانٍ معدودة، وكذلك الطعام والشراب يجد لذته لحظات قليلة وبعدها يَمَلُّ الطعامَ والشرابَ.
وكذلك غيرها من اللذات الأخرى التي مردُّها إلى الأمراض القلبية، مثل التلذذ بالشهرة والمدح والرياسة والتكبر على الخلق والجبروت، وهي في الحقيقة آلامٌ،
وعلاماتٌ على المرض، وشقاءٌ للإنسان، فيَشقى بها ويُشقِي مَن حوله، وأتعس الناس به من يجاوره، فكيف بنفسه التي بين جنبيه؟! فهو أتعس خلق الله -عز وجل-
إذا وُجدت فيه هذه الآلام والأمراض والعياذ بالله، فتلذُّذه أشد ضررًا عليه من تلذذ الجَرِب بحكِّ جسمه، فهو يُمزِّقُ نفسه ليجد بذلك راحة لحظية يزداد بها
تقطيعًا لجلده وتعذيبًا لنفسه، وهذه هي حال من ابتعد عن الله -عز وجل- ولم يجد حبَّه -سبحانه وتعالى-.
وقوله: "وهي رُوح الإيمان"، شبَّه الإيمان بجسد له رُوح، فكما أن الإيمان هو حياة القلب؛ فكذلك رُوح الإيمان هي المحبة، فبدون المحبة لا يكون هناك إيمان.
قال -رحمه الله-: "وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال" فالعمل بغير محبة عملٌ جافٌّ غيرُ مقبول، لا يؤثِّر في صاحبه، فلذلك ينبغي
أن تكون هذه الأمور محلَّ اهتمام المؤمن الصادق، لا أن ينحصر اهتمامه في الأعمال الظاهرة فقط دون أن يبحث في قلبه عن أسباب صلاحه وفلاحه،
فالعمل بدون حب كالجسد الميت، فكما أن الإيمان رُوحه المحبة؛ فكذلك هي رُوح الأعمال.
أما "المقامات والأحوال" فهي أعمال القلوب الأخرى، فالمقام: شيء ثابت، والحال: أمر يأتي على القلب ويذهب، وهو أقرب ما قيل في هذا الاصطلاح،
وهو اصطلاح صوفيٌّ في الحقيقة، لكن يمكن أن يُستعمل طالما أن المعنى ثابت، ومقصودهم منه: تفاوت الناس في الأعمال الظاهرة والباطنة،
فمنهم من يكون عمله ديمة كما قالت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً» [رواه البخاري ومسلم]
و«كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ» [رواه مسلم]، فهذا صاحب مقام، ولما سئل -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»
[رواه البخاري ومسلم]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَبْدَ الله لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» [رواه البخاري ومسلم].
فالحال من التحوُّل، أما المقام فثابت، فصاحب الأحوال من تأتيه لحظات يجد فيها العبادة القلبية، وصاحب المقام من استقرَّ حاله على ذلك،
وصار يجد هذا الأمر على الدوام ليلاً ونهارًا، صيفًا وشتاءً، فمن الناس من لا يجد لذة المحبة إلا في رمضان أو في الحج مثلاً.
فالمحبةُ بالنسبة إلى المقامات والأحوال وبالنسبة إلى أعمال القلوب الأخرى كالرُوح بالنسبة إلى الجسد، فبدون المحبة لن يكون هناك شكر أو صبر
أو محبة أو رجاء أو توكل، ولن توجد أنواع من العبادات، لا أحيانًا ولا على الدوام.
وللحديث عن الحب بقية إن شاء الله.