هذه خاطرة من وحي خيالي ..حتى أخي من صنع آمالي وحتى أمي هنا من
إلهامي غير أنها تصوٌر أخي المثالي..المجاهد المحتسب المربّي..اللهم فكّ
أسر كلّ أسير وأنس وحدة كل غريب وأثلج صدر كل بعيد..
أي سعد وجهك يا أمّ وليد..
أي أمي..كم آشتقت إليك.أجل،أذكر ولا أنسى و كيف مشاعري تنسى..أنساك كيف يا
أمي والفؤاد على ذكراك يمسي..
كنتُ صغيرة حين إلى وطنك رحلتِ و تُرِكتُ هاهنا أنا و أخي..نعم،بقينا في
الدنيا..إنها الفانية..فهل تُرى يا أمّي نجتمعُ ثانية في جنّة قطوفها
دانية..
لم أعرفكِ..لم يكن من أهلي سوى أخي..كلّ ما عرفتُ عنكِ هو ما حكاه لي وما
كان من مكنون سرّه عرفتكِ به أكثر فصمتُ الحكيم بديعة للحاذق الفهمِ يا
أمّي..فما يحمله لكِ أَعيى معاجم اللغات وكلّ الكلمات في محبّته لك أضحت
يتيمات..ليتك تعلمين أيّ الأبناء أخي..سأحكي لك ولكن صدقا طوبى لك بما
ظفرتِ بعد رحيلك يا أمّي..أي أمّي أبشري..
أخي إنسان عظيم يا أمّي فالحمد والثناء لربّيَ الرحيم..نذر حياته
للرّحمان..لقي من صروف الدهر ألوان ومن صنوف البشر ظلما وجورا وبهتان..إنهم
من قل نصيبهم من التحقيق والعرفان وبُخِس حظهم من الإحسان ومعرفة الرحمن
وقل نصيبهم من ذوق حقائق الإيمان وفرحوا بما عندهم من زبَدَ الأفكار و
بقايا الأذهان..من ماتت قلوبهم وقبرت فى أبدانهم.حقّا {إنَّ اللهَ يُسْمِعُ
مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ}.. فهل خار
عزمه أو التكلان؟؟ لا وربّي..بل زادته صبرا و إيمان وآحتسابا و إحسان.. عرف
أنّ التّصبّر على قدر اللطيف وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح
والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان..علم وأُخبِر أن
الصبر من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}وعلِم أن صبره انما هو به وبه جميع
المصائب تهون{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ،
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا
تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}..فكل ما مسه به من الضراء اهتدى
بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه..ينطرح بمجموعه بين يديه،
ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال:رحمة أهدِيَتْ إلى، ودواء
نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عنى..
أفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث
تكون أحب إليه وأرضى، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، و كلما وجد من
نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها:{يَا أَيَّتُهَا النّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ
ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً}..نعم هذا هو أخي..
علم أنّ الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها فى كل حين قتيل، تذل من
أعزها، وتفقر من جمعها.. هى كالسم يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه فكان فيها
المداوى لجراحه، يحتمى قليلا، مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الدواء
مخافة طول البلاء..علم أنّ الرخاء منها يوصل بالبلاء، و البقاء فيها إلى
فناء.. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر،و لو
كان ربنا لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت قد أيقظت النائم،
ونبهت الغافل.. فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر؟ فما لها عند
الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا صلى الله
عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها فأَبَى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض
خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه. فزواها عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه
اغترارا. فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسى ما صنع
الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه..
نعم هذا هو أخي..ما لقيني رغم ما حوى قلبه الصّابر الزّاهر إلا متبسّما
منشرحا طليق المحيّا وعيناه تواري من الغضب والغيرة والثّأر ما لا يعلمه
إلا الدّيان وقلب أخّية على صغرها رأت ببراءة سجيّتها حِمل أخيها..كان
بسّاما لأخيّته لأنه يعلم أنّي أرى الدنيا فيه فلو إطمأنّ فرحتُ و لو فرح
سعدتُ ولو سعدَ وربّي سِحتُ في السماء ومشيتُ فوق الماء..كنت أرى الدنيا
بعيونه فإن حزن حرمنيها بدموعه..
كم حكى لي من القصص..من روعتها كأنها أسطوريّة..هي قصص صحابة و أبطال ونفوس
زكيّة..رسم لي بألوان الطيف أخلاقا وفضائل وقيم وأبهى لوحات زيتيّة..كم
أسمعني من آيات جميلات حبيبات..عليّ يرتّلهنّ فأحبّهن وأحفظهُنّ و
أُسمِعهنّ..وتقرّ عيني بهنّ..
أجل..أذكر ولا أنسى وكيف مشاعري تنسى يوم لبست حجابي..كان يوم ملادي لو أنك
تعلمين..نعم يا أمّي ..كنتُ بعدُني صغيرة حينها،لعلّها الثامنة أو
التّاسعة..كان يوم ولدتيني يا أمّي ورغم أنه لا يجوز أن يهنّأني به قطّ إلا
أنّه لم يكسر بخاطري قطّ فلا حرمني هدايا رقيقة جميلة قطّ..يهديها لي قبل
ذلك اليوم بشهر أو أقلّ..يقول لي؛ أخيّتي أُهديها لك لأنّك صغيرتي فلا
أنتظر يوم ملادك لأهدي لك..كنت أفرح فرح صبيّة ظفرت بالحلوى وفرح نحلة بين
الزهور نشوى..لم أفهم سرّ ذلك إلا حين كبرتُ..حين علمتُ السنّة
والبدعة..أما ذلك اليوم فإنه عجيب يا أمّي عجيب..أتاني بأطهر و أنقى وأنصع
بياض رأيته في تلك اللفافة من القماش الأسود..نعم كان خمار..تبسّم لي
يقول:أخيّتي..يوم تهاجرين إلى الله فذاك عيدك..يوم تلتحقين بركب العائدات
العابدات فأنت من المهاجرات..
قال لي:اليوم سنّك يوم..قلتُ حينها كيف؟!!قال"ليس العُمر أُخيّة ما عشتِ من
أعوام..ولكن العمر ما خلّدت من ذكراك الأيام"..نعم أمّي..كان الأخ الرفيق
والأب الشفيق..ما حرمني من شيء،سعدتُ بكل الأرجوحات،فسّحني بأجمل
الرّوضات،أسمعني أجمل الأنشودات..صحيح لم يكن من خوفه يسمح لي بالخروج مع
أخيّات مخافة أن أسيء إختيار الخلان..لكني اليوم أعذره وعيني قريرة به فهو
كلّ الإخوان..هو إنسانية يا أمي..هو أطهر وأرقى وأسمى الإخوان..كان
أبي..كان أخي..كان كل الدنيا..كان أنتِ..كان ما بقي لي من بعدك يا أمّي..
أحبّك كثيرا..دعا لك كثيرا..علّمني أن أدعو لك ليطول عمرك ويزداد عملك..ليت
شعري أعلم كم زادك الله من سنين الحسنات بدعائنا لك يا أمي..كنتُ أراه
يقوم الليل لربّه..ما أجبرني أن أقوم قطّ حتى إذا ما كان الصباح أضحى
يحدّثني عن روعة القيام بين يدي العلام..كان يصف جمال المناجاة كمن يصف سحر
طبيعة لم ينثر وصفها أديب ولا رسمها فنّان..كان بريق السعادة في ناظريه
كمثل لؤلؤ منثور حوى قلبه الزاهر ودرّ مكنون إزدهر به جنانه المبتهل..حتى
أقول وهل بعد هذه الجنة جنة..فما أمسيتُ إلا أشدّ شوقا للقيام..هكذا هو يا
أمّي في كلّ شيء..أحببتُ لحُبّه ما يُحبّ كل شيء..
كم كان يحبّ الأطفال حين كبرتُ يا أمّي..لو أنّكِ رأيتيه يمسح على رأس هذا
اليتيم ويُضحك ذلك الحزين ويُربّتُ على كتف ذلك المسكين لكنت قلت أتُرى
حقّا هذا بنيّ؟..إنّه رحيم يا أمّي رحيم..رحيم لو أنّك تعلمين..كلما كبُرتُ
يوما كلما كبُر في نفسي له قدرا..وصار خوفي أكثر وأكبر..كم فُجعتُ فيه يا
أمي..وما فُجِع وأتيته أحمل سلوى بين يدي إلا ونطق منه الحال أن لبّيك ربّي
وسعديك..صابر شاكر ذاكر ولك المنة في ذلك والحمد فيه عائد إليك..نعم يا
أمي ..فالليل في وجهه مشرق وظلامه في الليل ساري..هُمُ في سُدف الظلام وهو
في ضوء النهار..
هذا هو آبنك يا أمّي الذي تركتِ لهذه الحياة..هو حياة لك بدعائه وهو حياة
لأخته بآطمئنانه..اليوم آبتعد أخي يا أميّ..حالت بيننا أقطار و بحار..لا
وربّي لن يفرح الذين حرموني أخي الوحيد..إني على عهدي يا أمي أدعو له
بالليل والنهار أن تفرح السكينة بقلبه المزدان طيبا وأنوار..لا عليك يا
أمي..فما ضَرّ ليلى قيود المكان والزمان إن كانت روحها متّصلة بحبل الرحمان
ترجوه لقاء في جنة خلد ليس بعده فراق أنا وهو وأنت..فآستبشري يا أمي..