البوصيري :
محمّد بن سعيد البوصيري، ولد في مصر عام 608هـ، وتألّق نجمه، سكن مدينة القدس، ثمّ انتقل إلى المدينة المنوّرة ومكّة يُعلّم القرآن الكريم بعدها عاد إلى مصر.
كان البوصيري فقيهاً وشاعراً مترسّلاً، أمّا شعره فكان في غاية الحسن واللطافة وعذوبة الألفاظ وانسجام التركيب، له قصائد كثيرة ولكن اشتهر بقصيدته الهمزية في مدح الرسول(صلى الله عليه وآله) والتي تقع في 458 بيتاً، جاء فيها:
كيف ترقَى رقيَّكَ الأنبياءُ ***** يا سماء ما طاولتها سماءُ
لم يساووك في عُلاكَ وقد حا **** ل سناً منكَ دونَهم وسَناءُ
إنّما مَثَّلُوا صفاتِك للنـــا ***** سِ كما مثّلَ النجومَ الماءُ
أنت مصباحُ كلّ فَضْل فما تَصـ**ـدُرُ إلاّ عن ضوئكَ الأضواءُ
لكَ ذاتُ العلوم من عالم الغَيْـ *****ـبِ ومنها لاَدمَ الأسماءُ
لم تَزَلْ في ضَمائرِ الكَوْنِ تَخُتَا ***** رُ لكَ الاُمّهاتُ والآباءُ
ما مضتْ فترةٌ من الرُّسلِ إلاّ ***** بَشَّرَتْ قومَها بكَ الأنبياءَ
تتباهَى بكَ العصورُ وتسمو ***** بكَ علياءُ بَعْدَها عليــاءُ
وقد ذُكر في سيرة حياته أنّه اُصيب بالشلل فتوسّل بالله وبحقّ نبيّه(صلى الله عليه وآله) فمسح رسول الله بيده المباركة على وجهه في عالم الرؤيا وألقى عليه بردة، ثمّ استيقظ من نومه ونهض فشفي تماماً، فنظم قصائد بليغة ومؤثّرة في مدح الرسول ومولده (صلى الله عليه وآله)والتي تعتبر من أشهر قصائده بعد الهمزيّة وهي البردة، وتسمّى أيضاً الكواكب الدرّيّة، ومجموع أبيات هذه القصيدة 162 بيتاً، وقد ترجمت إلى الهندية والفارسية والتركية والألمانيّة والفرنسية والانكليزية.
تبحث هذه القصيدة في النسيب الروحي الرمزي الذي ظاهره الغزل العفيف، ثمّ تتطرّق حول النفس وهواها، وكذا تبحث في مدح القرآن والرسول(صلى الله عليه وآله)ومولده والمعراج ودعائه والجهاد اضافة إلى الاستغفار والمناجاة.
لقد شرحت قصيدة البُردة 21 شرحاً وطبعت مراراً، وهذه القصيدة لقيت عناية العلماء والاُدباء ما لم يلق سواها من القصائد، فقد شرحها بعضهم وعارضها آخرون وشطرها أو ثلثها أو خمّسها عدد كبير من الشعراء.
والقصيدة في عاطفتها وروعة معانيها وقع الإجماع على أنّها أفضل القصائد في مدائح الرسول وممّا جاء فيها:
محمّدٌ سيّدُ الكَوْنينِ والثَّقَلَـ **** يـنِ والفريقينِ من عُرْب ومن عَجَمِ
فاقَ النَّبِيِّينَ في خَلْق وفي خُلُق**** ولم يُدانوه في علم ولا كَــــرَمِ
دَعَ ما ادَّعَتْهُ النَّصارى في نَبِيِّهِمُ *** واحْكُمْ بِما شِئْتَ مَدحاً فيه واحتَكمِ
فإنّ فَضْلَ رَسولِ الله ليسَ له **** حدٌّ فيُعْرِبَ عن ناطقٌ بفَـــــمِ
لم يَمْتَحِنا بما تَعْيا العقولُ به ***** حِرْصاً علينا فلم نَرْتَبْ ولم نَهِــمِ
نبيّنا الآمر الناهي فلا أحد ***** أبَرَّ في قول لا مِنهُ ولا نعـــــمِ
هو الحبيب الذي تُرجَى شفاعته ***** لكلِّ هول من الأهوال مقتحــمِ
وكُلُّهم من رسولِ اللهِ مُلتمِسٌ ***** غَرْفاً من البحر أو رشفاً من الدِّيمِ
أمّا لاميّة البوصيري التي عارض بها كعب بن زهير في قصيدته التي أوّلها:
بَانَتْ سُعَادُ فقلْبِي اليومَ مَتْبُولُ ***** مُتَيّمٌ إثْرَهَا لم يَغْدَ مَكْبُولُ
فقد بلغت قصيدة البوصيري 206 بيتاً، فكانت أطول من قصيدة كعب، منها:
إلى متى أنتَ باللذاتِ مشغولُ ***** وأنتَ على كلِّ ما قَدَّمْتَ مسؤولُ
في كل يوم تُرجي أن تتوبَ غداً ***** وعَقد عزمِكَ بالتسويف محلولُ
أما يُرى لك فيما سُنَّ من عمل ***** يوماً نشاطٌ وعما ساءَ تنكيــلُ
فجرِّد العزمَ إنّ الموتَ صارمه ***** مجرَّدٌ بِيَدِ الأجيالِ مسلــــولُ
واقطع حبالَ الأمانيِّ التي اتّصلت ***** فإنّها حَبْلها بالزُّور موصـولُ
أنْفَقْتَ عمرَكَ في مال تحصِّلُهُ ***** وما على غيرِ إثْم منه محصـولُ
ورُحْتَ تَعْمُرُ داراً لا بقاءَ لها ***** وأنتَ عنها وإن عُمِّرْتَ مَنْقُـولُ
جاء النذيرُ فشمِّرْ للمسير بِلاَ ***** مَهْل فليس مع الإنذار تمهيــل
وصُنْ مَشيبَكَ عن فعل تشانُ به ***** فكلُّ ذي صَبْوَة بالشَّيْبِ معذولُ
لا تُنْكِرَنهُ وفي الفَوْدَيْن قد طَلَعَتْ ***** منه الثُّريا وفوقَ الرأْس إكليلُ
فإنّ أرواحنا مثلُ النجوم لها ***** من المنيّة تَسييرٌ وترحيــــلُ
وإن طالِعَها منا وغاربها ***** جيلٌ يمرُّ ويأتي بَعْدَهُ جيــــــلُ
حتّى إذا بَعَثَ اللهُ العبادَ إلى ***** يوم به الحُكْمُ بين الخَلْقِ مفصولُ
تَبَيَّنَ الرِّبحُ والخسرانُ في اُمم ***** تخالفت بينها فيها الأقاويــلُ
توفّي البوصيري سنة 696هـ في القاهرة.