كتب
نيتشه منذ ازيد من قرن و نصف عن اخلاق السادة و العبيد انطلاقا من أن
الإنسان يبني تصوراته الأخلاقية وقفا لضروفه و لإعطاء معنى لحياته و لهذا
تكون عقيدة الإنسان جبرية عندما يكون عاجزا و ضعيفا , في حين يسود بين
الاقوياء فكرة ان الإنسان يصنع قدره . و لهذا تتبدل اخلاق الناس بتبدل
ظروفهم من كونهم ثوارا إلى كونهم زعماء سياسيين و من كونهم فقراء إلى كونهم
عبيدا . و من هذا المنظور "ليست الاخلاق سوى ثياب نليسها و لكل رداءه
المناسب" و لا عجب أن تميل الطبقات المحرومة و المقهورة و العاجزة عن تغيير
ما يقع عليها من ظلم و قهر إلى إتباع معتقدات تبرر ذلك الوضع و تقلل من
الألم النفسي الناتج عنه و لهذا تجد أن قيم الصبر و الرضا بالقدر و الخضوع
للسلطة الحاكمة شائعة بينها و لذلك أيضا تشيع ثقافة الأولياء و القديسين
الذين يرمزون لهذه القيم الاخلاقية و يجعل العوام الحل في أيديهم للتنصل من
مسؤولية التغيير التي عجزوا عنها . و في كل مكان يميل الكهنوت الديني إلى
تعزيز هذه الثقافة من اجل بقاء السلطة و الثروة في أيديهم و أيدي حلفائهم
من أصحاب الثروة و القوة .
لكن حركة التاريخ
تحكمها سنة التعاقب و التداول و التغير , و لهذا رأينا شعوبا همجية تتحول
إلى شعوب متحضرة و شعوب متحضرة تتقهقر إلى الخلف "و تلك الأيام نداولها بين
الناس" . و هذا التغير تحكمه عدة متغيرات خارجة عن إرادة الإنسان لأن
الإنسان لا يصنع التاريخ و لا يحرك دفته إلا إذا كان واعيا بسنن التاريخ و
حركته و ماعدا ذلك فالإنسان هو مجرد ورقة تلعب بها رياح التاريخ .
و بين الأخلاق و
حركة التاريخ سأحاول في هذه المشاركة أن أفسر ما يحدث في مصر اليوم و ما
يمكن أن نستشرفه حول مستقبل الانتفاضة الحالية .
أخلاق الفلاحين وأخلاق الرعاة :
كان البشر قبل
استقرارهم يعتمدون على الصيد و لهذا كان على الرجل أن يكون عنيفا و مقاتلا
لكسب رزقه و كان عليه أن يجابه الحيوانات و يقتلها و لهذا كانت مجموعات
البشر أثناء هذه المرحلة تتميز بدرجة عالية من المساواتية لان تقسيم العمل
كان بسيطا داخل المجموعة و لان كل أفراد المجموعة معتادون على ممارسة العنف
. لكن و مع تطور البشر و نشوء المجتمعات الزراعية زادت درجة تقسيم العمل و
قلت درجة اعتماد الانسان على العنف(الصيد) ليكسب عيشه . و بالتدريج أدى
هذا إلى ظهور الطبقية و التفاوت بين أفراد المجتمع الزراعي لأن تقسيم العمل
ادى إلى سيطرة الأفراد الذين يستخدمون القوة من اجل حماية المجتمع ( ما
تطور لاحقا ليشكل الجيش) و نشأ عنه تقسيم غير عادل للثروة و هيمنة فئة
معينة على وسائل الإنتاج و لهذا نرى ان كل الحضارات التي قامت على الزراعة
تتميز بقدر كبير من الطبقية و التفاوت و تركز ملكية أغلب الأراضي في يد
أقلية مسيطرة بقوة السلاح . و بالتوازي مع ظهور المجتمعات الزراعية في
المناطق الخصبة و على ضفاف الأنهار تطور نمط حياة اقتصادي أخر يقوم على
استئناس الحيون , فنشأت في المناطق الأقل خصوبة مجتمعات تخلت جزئيا عن
الصيد و اعتمدت على الرعي . و بحكم متطلبات الرعي كان افراد هذه المجتمعات
اقل تخصصا و اقرب إلى المحاربين لأنه كان عليهم الانتقال من مكان إلى أخر و
حماية قطعانهم من الحيوانات المفترسة و من السرقة و لذلك تميز مجتمع
الرعاة بدرجة اكبر من المساواتية و الميل إلى الحرية . و سرعان ما نجحت بعض
المجتمعات الرعوية في السيطرة على المجتمعات الزراعية و إخضاعها
فالأكاديون و البابليون و الآشوريون كانت من جماعات البدو التي سيطرت على
حضارة السومريين الزراعية و غالبا ما خضعت المجتمعات الزراعية المسالمة و
الضعيفة (لتراجع ممارسة العنف عندها) إلى سيطرة المجتمعات الرعوية فالمغول
كانوا رعاة و استطاعوا أن يخضعوا الصين و نجح الرعاة الهكسوس في احتلال مصر
و نجح الآريون في السيطرة على المجتمع الزراعي في الهند كما نجح التوتسي
في السيطرة على الهوتو إلى غيرها من الأمثلة .
و كان لهذا التباين
في نمط الإنتاج و تقسيم العمل و تنظيم المجتمع دوره في صياغة أخلاق
الفلاحين و أخلاق الرعاة . فالفلاحون أكثر صبرا لأن ثمار عملهم تأتي في أخر
الموسم و وفرة المحصول تعتمد على ما تمن به السماء و فيضان الأنهار لذلك
يعتقد الفلاح أن مصيره بيد السماء في حين يعتقد الرعاة أن مصيرهم بيدهم .
كما أن المجتمعات الفلاحية تتركز في المناطق السهلية حيث يصعب التمرد على
السلطة الحاكمة أو القوات الغازية . على عكس المناطق الجبلية و الوعرة حيث
يكون الناس أكثر قدرة على محاربة الغزاة , أضف على ذلك أن تضاريس الجبال لا
تسمح بالتفاوت في ملكية الأرض و الثروة في حين تسمح السهول بملكية الأراضي
الشاسعة و بالتالي التفاوت الكبير بين الناس .
و هكذا صار الفلاح
من الطبقة الدنيا يفتقر لمهارات القتال بسبب طبيعة كسب رزقه و لا يستطيع
الالتجاء للطبيعة لمقاومة ظلم الأقوياء و يعتقد أن مصيره بيد السماء , صار
هذا الفلاح يتحلى بأخلاق العبيد , راضيا بواقعه و صابرا على الإهانة و
مستسلما لقدره و لانه يدرك من التجربة ان لا طاقة له على دفع قهر السلطة
فهو يميل إلى التذلل و إظهار الخضوع لمن هو أقوى منه .
و المجتمع المصري
هو أكثر الشعوب الذي ترسخت فيه ثقافة الفلاح المستسلم لأنه حافظ على بنيته
على مدى ألاف السنين . لهذا تجد في لغة المصريين الكثير من عبارات التزلف
مثل "يا بيه" " يا باشا" " أنا في عرضك" " خدامك" " أنت تأمر" " أنا مسمار
في جزمة سعادتك" و الكثير من العبارات الشائعة و التي تعكس الطبقية و قهر
السلطة في مصر "فاليد التي لا تقدر على قطعها بوسها" . و هكذا يمكن من خلال
الأفلام و المسلسلات و واقع المصريين ملاحظة الكثير من مظاهر الظلم و
الاحتقار لأبناء الشعب الفقراء من الفلاحين. ميل الفلاحين للصبر و
الاستسلام للقدر و الطاعة و ربما كان هذا الميل إلى الطاعة هو الذي جعل من
الجندي المصري من خير أجناد الأرض .
التغير الاجتماعي و أحداث جمعة الغضب :
مع التطور الذي
عرفته الإنسانية منذ الثورة الصناعية بدأت المجتمعات تتحول تدريجيا من
مجتمعات ريفية زراعية إلى مجتمعات حضرية يعتمد اقتصادها على الصناعة و
الخدمات , و مصر كغيرها من المجتمعات مسها هذا التغير , و لهذا كان من غير
الممكن أن تستمر بقاء نظام سياسي قهري و التحول التدريجي إلى نظم تزيد فيها
نسب المشاركة السياسية كما حدث في معظم دول العالم . ما يحدث الآن في مصر
هو نتيجة التحول الاجتماعي في المجتمع المصري الذي تغير تدريجيا من مجتمع
ريفي فلاحي إلى مجتمع حظري يشتغل معظم أبنائه في قطاع الخدمات و الصناعة . و
الذي يمكن ملاحظته من تتبع الأخبار أن الثورة هي ثورة الطبقة الوسطى
الأكثر ابتعادا عن ثقافة الفلاح في حين كانت مشاركة الطبقات الأكثر فقرا
اقل بالرغم من أنها الأكثر تضررا من الواقع السياسي لان هذه الطبقات اقل
تعليما من جهة و أكثر ارتباطا بثقافة الاستسلام و الخضوع لان معظم أفرادها
هم من النازحين من المناطق الفلاحية . و هكذا فمصر تعيش اليوم لحظة حاسمة
ليس في تاريخها السياسي و فقط بل و في تاريخها الثقافي . لان النجاح في قلب
النظام و إبداله بنظام يسمح بدرجة اكبر بالمشاركة السياسية و بمزيد من
الحريات هو دليل على تغير عميق في ثقافة المجتمع المصري .
لهذا لابد للشعب من
طرح ثقافة العبيد و التمسك بأخلاق السادة التي تسمح بمجتمع أكثر مساواتية و
عدلا (و أن لا نكون عبيدا إلا لله) . لابد أن يثور الإنسان من اجل كرامته و
لابد من التخلص من كل التصورات الدينية التي تكرس لبقاء الظلم و القهر على
الأغلبية . و هذا يستلزم تغير في فهمنا للدين و التاريخ و المجتمع . لان
دراسة التاريخ تبين لنا أن التغير سنة من سنن الله في خلقه و لا يمكن لأحد
أن يوقف عجلة التطور و التاريخ التي تسير إلى حتمية انتصار الحق على الباطل
.
ما الذي سيحدث :
إن نجاح الثورات
الشعبية مرتبط بالعديد من العوامل كدرجة تشبع الشعب بقيم الحرية و العدالة و
المساواة و بدرجة التعليم و الوعي السياسي و طبيعة النظام القائم و درجة
التدخل الأجنبي و غيرها من المتغيرات التي تجعل التنبؤ بالثورات و بقدرتها
على النجاح أمرا صعبا . لكن الأمر المؤكد هو ان طبيعة التنازلات التي
تقدمها السلطة و توقيتها هو عامل مهم في تحديد المستقبل السياسي لسلطة
معينة . فالأنظمة المتعنتة و العنيدة والتي تصر على احتكار السلطة تنتهي
بالانكسار امام ضغط الشعب كما حدث في الثورة الفرنسية و في ثورة تونس في
حين نجحت الأنظمة الأكثر مرونة في الحفاظ على بقائها بالتنازل التدريجي على
السلطة كما حدث مع الملكية البريطانية . و الذي يبدو هو ان النظام المصري و
على رأسه حسني مبارك لازال مصرا على مخادعة الشعب و التمسك بالسلطة فلم
يأت خطابة حول الأحداث بجديد . مما يجعل الامر مفتوحا على عدة سيناريوهات .
و الذي أراه هو أن الصراع بلغ الآن درجة الصراع الصفري أي "الكل أو لا
شيء" , فالشارع رفع سقف المطالب و صار لا يرضى إلا بسقوط النظام و النظام
لم يعد أمامه سوى أسلوب القمع الدموي لإنهاء الثورة . و العامل الوحيد الذي
سيحسم هذا الصراع هو أي الروحين ستغلب على الشعب المصري , روح التحرر أو
روح الاستسلام , أخلاق العبيد أو أخلاق السادة . لكن و بغض النظر عن ما
ستؤول إليه هذه الثورة فالذي لا اشك فيه هو أن رياح التغيير بدأت تهب فعلا .