لمُسَــاهَمَـــاتْ : 2251 العمر : 30 مزاج : تاريخ التسجيل : 21/07/2009
Subject: الإسلام بين التغيير المنشود والعطاء الموعود Fri 31 Dec أƒ 16:28
[You must be registered and logged in to see this image.] الإسلام بين التغيير المنشود والعطاء الموعود
إنَّ الإسلام يَهدي القلوبَ لفاطرها، ويُطوِّع النفوس لباريها، ويُوجِّه الضمائر لخالقها، والله خَلَق خلْقه تفضُّلاً منه، وكلَّفهم إحسانًا إليهم، وأرْسل إليهم رُسله بالحقِّ مبشِّرين ومنذِرين، وأنزل معهم الكتب نورًا على طريق الحقِّ المبين، فأزالوا الشرك بإخلاصِهم، وبدَّدوا الجهْلَ بعِلمهم، وأناروا الدنيا برِسالتهم، واستخرَجوا طيباتِ الأرْض بسواعدهم، وحرَّروا البشريَّة مِن أغلالها - لتعبد ربًّا واحدًا، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه - بتوفيق الله لهم، لم يخلْقِ الله الإنسان عبثًا، ولم يتركْه سُدًى، وإنَّما هداه سبيلَه، وبيَّن له طريقه، وحدَّ له حدودَه، وجَلَّى له معالِمَه، جعل له طريقًا سويًّا، وصراطًا مستقيمًا؛ (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: 153]، وهيأ له حبلاً متينًا، ومنهجًا قويمًا؛ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103]، ووضَعَه في أحسن تقويم؛ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين: 4]؛ إنعامًا من الله عليه، وإحسانا من الله له، وإعلاء من الله لمنزلته، فإذا حافَظ الإنسانُ على هذه النِّعم، زاد مِن شُكْرها، وأدَّى ما عليه مِن حقوقها، بارَكَ الله له فيها، وأرْضاه الله بها، وبدَّله في الآخِرة أفضل منها. وإذا ما غيَّر الإنسان وبدَّل، فجَحَد بها، وكفرَها، وردَّها، تحوَّلتْ منه إلى غيره، وغيَّر الله حالَه ومآله؛ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)[إبراهيم: 28 29]، بل وينتظره العذابُ الشديد يومَ الوعيد؛ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]. سُنَّة التغيير ماضية إلى يوم الدين: يقول الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: 11]، يقول الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - تعليقًا على هذه الآية الكريمة: "مِنَ الآفات الخفيَّة العامَّة أن يكون العَبْد في نِعمة أنعَمَ الله بها عليه، واختارها له، فيملّها ويَطلب الانتقالَ منها إلى ما يزعُم - لجهله - أنَّه خيرٌ له منها، وربُّه برحمته لا يُخرِجه من تلك النِّعمة، ويَعذِره بجهله وسوءِ اختياره لنفْسه، حتى إذا ضاق ذَرْعًا بتلك النِّعمة وسَخِطها وتبرَّم بها، واستحكم مَللُه لها، سَلَبه الله إيَّاها، فأكثرُ الناس أعداءُ نِعم الله عليهم، ولا يَشْعُرون بفتْح الله عليهم نِعمه، وهم مجتهدون في دفْعها وردِّها؛ جهلاً وظلمًا! فكَمْ سَعَتْ إلى أحدهم مِن نِعمة، وهو ساعٍ في ردِّها بجهده، وكم وصلَتْ إليه وهو ساعٍ في دفْعها وزوالها بظُلْمه وجهْلِه! وَعَاجِزُ الرَّأْيِ مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ *** حَتَّى إِذَا فَاتَ أَمْرٌ عَاتَبَ الْقَدَرَا". حوَّل اللهُ النِّعمة من قوم لم يقدروها، ولم يَشْكروها، إلى غيرهم؛ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ)[الدخان: 25- 28]، ورَّث الله آخرين جنَّاتِهم وعيونَهم وزروعَهم، ومقاماتِهم ونِعمَهم. وذهب الجاحدون غيرَ مأسوف عليهم، لا تتَّسع لهم قبور، ولا تبْكي عليهم أرْض، ولا يبش لهم ربُّ السموات؛ (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)[الدخان: 29]. وفي "تفسير السعدي": (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ) مِن النِّعمة والإحسان، ورَغَد العيش (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) بأن يَنتقِلوا من الإيمان إلى الكُفْر، ومِن الطاعةِ إلى المعصية، أو مِن شُكر نِعم الله إلى البَطر بها، فيسلبهم الله إيَّاها عندَ ذلك، وكذلك إذا غيَّر العباد ما بأنفسهم مِنَ المعصية، فانتقلوا إلى طاعةِ الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه مِنَ الشقاء، إلى الخير والسُّرور والغِبْطة والرحمة. وقال الشيخ ابن باز - رحمه الله رحمة واسعة -: "الآية الكريمة آيةٌ عظيمةٌ تدلُّ على أنَّ الله - تبارك وتعالى - بكمال عدْله، وكمال حِكمته لا يُغيِّر ما بقوم مِن خير إلى شر، ومِن شرٍّ إلى خير، ومِن رخاء إلى شدَّة، ومن شدَّة إلى رخاء، حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيَّروا، غيَّر الله عليهم بالعقوبات والنَّكبات، والشدائد والجدْب والقحْط، والتفرُّق، وغيْر هذا مِن أنواع العقوبات جزاءً وِفاقًا؛ قال - سبحانه -: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46]، وقد يُمهِلهم - سبحانه - ويُمْلي لهم ويَستدرجهم؛ لعلَّهم يَرجعون، ثم يُؤخَذون على غِرَّة، كما قال - سبحانه -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الأنعام: 44]؛ يعني: آيسين من كلِّ خير، نعوذ بالله مِن عذابِ الله ونِقْمته، وقد يُؤجَّلون إلى يومِ القيامة، فيكون عذابهم أشدَّ، كما قال - سبحانه -: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42]، والمعنى: أنَّهم يُؤجَّلون ويُمْهَلون إلى ما بعدَ الموت، فيكون ذلك أعظمَ في العقوبة، وأشدَّ نقمة. وقد يكونون في شرٍّ وبلاءٍ ومعاصٍ، ثم يتوبون إلى الله، ويَرْجِعون إليه ويندمون، ويستقيمون على الطاعةِ، فيُغيِّر الله ما بِهم مِن بؤْس وفُرْقة، ومن شدَّة وفقْر إلى رخاءٍ ونِعمة واجتماع". أقوام بدَّلوا نعمة الله كفرًا فأحيلوا إلى ما رغبوا وصنعوا: • إنَّ القريةَ التي تستبدل الفزعَ بالأمن، والكفرَ بالإيمان، يُلبِسها الله الجوعَ مهما شبِعتْ، والخوفَ مهما استأمنَتْ؛ وذلك بما اقترفتْ وصنعتْ؛ (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]. • والأمَّة التي تستبدلُ الضلال والعمى بالبصيرة والهُدَى، تُصاب بالصاعِقة؛ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[فصلت: 17]. • والأُمَّة التي تُهمِل الرِّسالة، وتهزأ بالمرسلين، وتصدُّ عن الدِّين، يُحوِّل الله الرسالة عنها، الرسالة كانت في بني إسرائيل؛ (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)[المائدة: 20]، لكنَّهم غيَّروا وبدَّلوا؛ طال عليهم الأمَدُ وقَسَتْ قلوبهم، اشْتَروا بآياتِ الله ثمنًا قليلاً، قتَلوا الأنبياء، ونَقضوا العهود، أوْقدوا الحروبَ، وقالوا: يَدُ الله مغلولة، غُلِّت أيديهم ولُعنوا؛ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[المائدة: 64]. مِن هنا انتقلتِ الرسالة إلى بني إسماعيل، حيث تسلَّمها محمَّدٌ رسول الله في حضورِ كلِّ الأنبياء، ليلةَ الإسراء المبارك، في مكانٍ طيِّب (المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله)، في جمْع طيِّب؛ (وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 181]، في وقت طيِّب (الليل)، في عمل طيِّب (الصلاة)، تسلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الرِّسالةَ من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ليلةَ الإسراء، وحافَظ عليها حتى الرَّمق الأخير، وتسلَّمْنا الرسالة منه بعدَ وفاته، هل نحافظ عليها؟ أم نفرِّط فيها؟! إنَّها الحصانة، إنها العِزَّة والكرامة، إنها العهْد والأمانة؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)[الأحزاب: 72]. إنَّ الله - تعالى - لا يُفضِّل أحدًا على أحد إلاَّ بالتقوى، ولا يختار أحدًا على أحدٍ إلاَّ بالعمل الصالح، وليس بينه وبيْن أحد مِن حسب أو نَسَب إلاَّ بالإيمان، والإيمان ما وَقَر في القلْب وصدَّقه العَمَل، كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يا معشرَ قريش، اشْتَرُوا أنفسكم؛ لا أُغني عنكم من الله شيئًا، ويا صفية عمَّة رسولِ الله، لا أُغنِي عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد، سَلِيني ما شئتِ من مالي، لا أُغني عنك مِن الله شيئًا))؛ متفق عليه. ونحن نتعبَّد في القرآن إلى يومِ الدين بلعْن عمِّه أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد: 1]، وإذا غيَّرْنا وبدَّلْنا، أو قصَّرْنا مع هذه الرسالة العظيمة، فإنَّ الله سيحوِّلها إلى أُناس غيرِنا، لهم صفات غيرُ صفاتنا - حال التبديل - وأخلاق غير أخلاقنا - عندَ التقصير -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة: 54]، وما ذلك على الله بعزيز؛ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[إبراهيم: 19 - 20]، فهل نُحافظ عليها ونعضُّ عليها بالنواجِذ؟ أم نفرِّط فيها؟! الحال أبلغُ مِن المقال: إنَّما مِن باب: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55]، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[إبراهيم: 5]. إنَّ لله - تعالى - سننًا لا تتغيَّر، وقوانينَ لا تتبدَّل؛ (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)[الفتح: 23]، التغيير آيةٌ قرآنية، وقاعدةٌ اجتماعيَّة، وسُنَّة إلهيَّة، سنَّها الله - تعالى -، يسير عليها الكون، ويَنْتظم بها البَشَر، وتدور في فَلِكها الحياة، إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم،، إذا أنعَم الله على قوْم بالأمْن والعِزَّة، والرِّزق والتمكين في الأرْض، فإنَّه - سبحانه وتعالى - لا يُزيل نِعمَه عنهم، ولا يسلبهم إيَّاها، إلا إذا بدَّلوا أحوالَهم، وكفروا بأنُعمِ الله، ونقضوا عهدَه، وارْتكبوا ما حرَّم عليهم، هذا عهدُ الله، ومَن أوْفى بعهده مِن الله؟! فإذا فعَلوا ذلك لم يكن لهم عندَ الله عهدٌ ولا ميثاق، فجَرَتْ عليهم سُنَّة الله التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، فإذا بالأمْن يتحوَّل إلى خوْف، والغِنَى يتبدَّل إلى فقْر، والعِزَّة تؤول إلى ذلَّةٍ، والتمكين إلى هوان. والحال اليوم أبْلَغ مِنَ المقال، ما أصاب الأُمَّة من ضَعْف وهوان، وما اعْتَراها من ذُلٍّ وصَغار، وما علاها مِن تخريب ودَمار، على أيْدي المنافقين والكفَّار، بعد أنْ كانتْ بالأمس قرينةَ الصلاح، وصاحبة النَّجاح، وأصْل الفلاح، ومهيبة الجَنَاح، ولماذا؟! أسرفَتْ على نفسها كثيرًا، وتمادتْ في طغيانها طويلاً، واستسلمتْ لإذلالها دهورًا، واغترَّتْ بحِلم الله وعفْوه، وحسبت أنَّ ذلك مِن رِضا الله عنها، ونَسِيتْ أنَّ الله يُمهل ولا يُهْمل، وما الأمَّة إلا مجموعة أفراد، وصلاح الفَرْد صلاحُ الأمَّة، لكن - للأسف الشديد - المحرَّمات ارْتُكِبت، والفواحش انتشَرتْ، والكرامات امتُهِنت، والسفور حلَّ محلَّ السِّتر، والرَّزيلة حلَّتْ مكانَ الفضيلة، الإسراف حلَّ محلَّ العَفاف، واستبُدل الرِّبا بالقَرْض الحَسَن (حرْب الله ورسوله)، والخمر (أم الخبائث) صارتْ لها مصانعُ ومتاجِر، أمسى الفنُّ عريًا والعري فنًّا، وأصبح المعروفُ منكرًا، والمنكر معروفًا، ارْتَفع الغناء (صوت الشيطان)، وهُجِر القرآن (كلام الرحمن)، قوانين ما أنْزل الله بها مِن سلطان، وقَبْل ذلك كله تخلَّيْنا عن الجِهاد الذي هو ذِروة سَنام الأمْر؛ ((إذا تبايعتُم بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورَضيتم بالزَّرْع، وتركتُم الجِهاد سَلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا يَنزِعه حتى تَرْجِعوا إلى دِينكم))؛ صحيح "السلسلة الصحيحة". "العِينة": أن يبيع شيئًا من غيره بثمنٍ مؤجَّل، ويُسلِّمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبْلَ قبْض الثمن بثمنٍ أقلَّ مِن ذلك القدْر يدفعه نقدًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا مع التواطؤِ يُبطل البيعَيْن؛ لأنَّه حِيلة. ركنَّا إلى الدنيا وتبايعْنا بالعِينة، وتبِعْنا أذناب البَقر، ثم ننتظر نصْرَ الله وعِزَّته وتمكينه؟! ثم نتساءل لماذا حلَّ بنا ما حلَّ بنا؟! ثم نستغرِب ما نحن فيه من فسادٍ واستبداد!. إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، إنَّنا لن نخرجَ ممَّا نحن فيه مِن الذل والصَّغار، ولن ننال العِزَّة والكرامة، إلا إذا غيَّرْنا من أنفسنا، وعُدْنا إلى دِيننا، وتمسَّكْنا بإسلامنا، فكما قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فإنِ ابتغينا العِزَّة بغيره أذلَّنا الله". إنَّ الأمَّة لن تتغيَّر إلا إذا تغيَّر أفرادُها، إذا غيَّرْنا أسلوبَ حياتنا بما يوافِق شرْعَ الله، وبما يتمشَّى مع دِين الله، وقُلْنا لربنا: سمعْنا وأطعْنا، واتَّبعنا هَدْيَ نبينا؛ التزامًا واتباعًا، سلوكًا وأخلاقًا، وسِرْنا على نهج قرآننا، تلاوةً وترتيلاً، تطبيقًا وتنفيذًا؛ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الحشر: 7]، عندها نُصبِح أفرادًا وأمَّة أهلاً لموعودِ الله بأن يُغيِّر الله ذُلَّنا إلى عِزَّة، وضَعْفَنا إلى قوَّة، وفقْرَنا إلى غِنًى، وهوانَنا إلى تمكين. الإناء ينضح بما فيه: إنَّ الذين يرغبون في السوء، ويجنحون للسوء، ويتغيَّرون للأسوأ، يَصِلُون إلى ما لديهم من استعداد لذلك المرض؛ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[البقرة: 10]، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا)[الفرقان: 60]، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[الصف: 5?، (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 46]. أمَّا الذين لديهم استعدادٌ للتغيير إلى الأحسن، يغيِّر الله حالهم إلى حيث ما أرادوا، ويَهديهم تقواه؛ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)[محمد: 17]. أقوام وأفراد أرادوا الهُدى واستعدُّوا لتلقيه، فنَعِموا به: • سحَرَة فرعون بعدَ أن رغبوا في أجْر الدنيا؛ (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)[الأعراف: 113]، وأقْسموا بعِزَّة الطاغية؛ (فَأَلْقَوا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ)[الشعراء: 44]، تحوَّلوا فآمنوا بالله، واعْتَقدوا في الآخِرة، واستهانوا بالدنيا، ولم يجزعوا مِنَ الموت، فتغيَّروا مِن فورهم، واقْتربوا من ربِّهم، وعرَفوا مَن عدوُّهم، يقولون له وهُم في ثباتِ الجِبال: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[طه: 72]، إنَّهم لا يَحرِصون على شيء عندَه، ولا يخافونه على شيءٍ عندهم، لماذا يخافون وقدْ ذاقوا حلاوةَ الإيمان؟ ولماذا يَضعُفون وقدِ ارتكنوا إلى رُكْن شديد؟ ولماذا يَهِنون وقد تبرَّؤوا من حَوْلِهم وقوَّتهم إلى حوْل الله وقوته؟! لقدْ تغيَّروا من أتْباعٍ له منفِّذين لأمْره، مطيعين لقراره، إلى دُعاةٍ له يُبشِّرون ويُنذرون، وبأمر الله فقط يأمُرون، وبتوجيه الله فقط يَنصحون؛ (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 73] مَن حَوَّل قلوبَهم؟ ومَن غيَّر وجهتهم؟ ومَن بدَّل طريقهم؟ إنَّه الإيمان الذي يُغيِّر الوجهة، ويحول القلوب. • كانت هندُ بنت عُتْبة زوجةُ أبي سفيان بن حرْب، قد حرَّضتْ وحشيَّ بن حرْب على قتْل حمزة بن عبدالمطلب، حيث وعدتْه بالحريَّة - وقد كان عبدًا لها - إنْ هو قتَل حمزة، ولَمَّا قتَل وحشيٌّ حمزةَ، جاءتْ هند إلى حمزة وقد فارَقَ الحياة، فشقَّت بطنه، ونزعَتْ كبدَه، ومضغتْها ثم لفظتْها، وبعد غزوة الخندق رجَع أبو سفيان إلى مكَّةَ وقد أسْلم على يدِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولَمَّا رجَع إلى مكة في ليلة الفتْح صاح: "يا معشرَ قريش، إني أسلمتُ فأَسْلِموا، فإنَّ محمدًا أتاكم بما لا قِبلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمِن"، فأخذتْ هند رأسَه، وقالت: "بِئسَ طليعةُ القوم أنت، والله ما خدشت خدشًا، يا أهلَ مكة عليكم الحَمِيت الدَّسِم فاقْتُلوه، قُبِّح من طليعة قوم"، فقال أبو سفيان: "ويْلَكم لا تغرنَّكم هذه من أنفسكم، فإنَّه قد جاءكم ما لا قِبلَ لكم به"، وفي اليوم التالي لفتْح مكة، جاءت هند لزَوْجها أبي سفيان وقالت: "إنَّما أُريد أنأتَّبِع محمدًا، فخُذْني إليه"، فقال لها: "قد رأيتُك تكرهين هذا الحديثَ بالأمس"، فقالت: "إني والله لم أَرَ أنَّ الله قد عُبِد حقَّ عبادته في هذا المسجد إلاَّ في هذه الليلة، والله إنْ باتوا إلا مُصلِّين قيامًا ورُكوعًا وسجودًا"، فقال لها: "فإنَّك قد فعلتِ ما فعلت، فاذْهَبي برَجلٍ من قومك معك، فذهبتْ إلى عثمان بن عفَّان، فذَهب بها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمَتْ وبايعت، وأقرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِكاحَ أبي سفيان وهند، ثم جعلتْ هند تضرب صنمًا لها في بيتها بالقَدُّوم حتى فلذته فلذة، وهي تقول: "كنَّا منك في غرور"!. بعدَ إسلامها اشتركَتْ في الجِهاد مع زوجها أبي سفيان في غزوة اليَرموك، وأبْلَتْ فيها بلاءً حسنًا، وكانتْ تُحرِّض المسلمين على قِتال الرُّوم، فتقول: "عاجِلوهم بسيوفكم يا معشرَ المسلمين"، كما رَوتْ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ورَوَى عنها ابنُها معاوية بن أبي سفيان، وعائشةُ أم المؤمنين، وظلَّتْ هند بقيةَ حياتها مسلِمة مؤمِنة مجاهدة، حتى تُوفِّيت سنةَ أرْبَعَ عشرةَ للهِجرة، إنَّه التغيير الحقيقي المأمول. • مالك بن دِينار كان شُرَطيًّا في العصر العباسي، مسرِفًا على نفسه، ومُقِّصرًا في حقِّ ربه، ومفرِّطًا في جنب الله، لكنَّه تغيَّر بعد توبته تغييرًا رائعًا!. ذكَر الإمام الذهبي - رحمه الله - في كتابه "الكبائر"، والإمامُ ابن قُدامة المقدسي في "التوابين"، كان مالكُ بن دينار شُرطيًّا مُنهمكًا على شُرْب الخمر، ثم وُلِدت له بِنت، وكان يحبُّها، فماتَت فحَزِن عليها حُزنًا شديدًا، فرأى ليلةَ النِّصف من شعبان أنَّه خرَج من قبره حيَّةٌ عظيمة تتبعه، كلَّما أسْرَع أسرعتْ، فمرَّ بشيخٍ ضعيف فسألَه أن ينقذَه منها، فقال: أنا عاجزٌ مُرَّ وأسرعْ؛ لعلك تنجو منها، فأسْرعَ وهي خلفَه، حتى مرَّ على طبقات النار وهي تفور، وكاد أن يَهوِي فيها، وإذا بصوتٍ، يقول: لستَ مِن أهلي فمُرَّ، حتى أشرف على جبل به طاقاتٌ وستور، وإذا بصوت يقول: أدْرِكوا هذا اليائسَ قبل أن يُدرِكَه عدوُّه، فأشرف عليه أطفالٌ فيهم ابنتُه التي ماتتْ، فنزلت إليه وضربَتْ بيدها اليُمنَى إلى الحية، فولَّتْ هاربةً، وجلستْ في حجره قائلةً: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16]، فقال لها: أتقرَؤون القرآن؟ قالت: نحن أعرفُ به منكم، ثم سألَها: ما مقامهم هنا؟ فأخبرتْه: أنهم أُسْكِنوا هنا إلى يومِ القيامة، ينتظرون آباءَهم يَقْدَمون عليهم، ثم سَأل عن تلك الحيَّة؟ فقالت: عملُك السوء، وعن الشَّيْخ؟ فقالت: عملك الصالِح أضعفتَه حتى لم تكن له طاقةٌ بعملك السُّوء، فتُبْ إلى الله، ولا تكن مِن الهالكين، ثم ارتفعتْ عنه واستيقظ، قال مالك: فانتبهتُ فزعًا وأصبحتُ فأرقتُ المُسْكِر وكسرتُ الآنية، وتبتُ إلى الله - عز وجل - وهذا كان سببَ توبتي، كان ذلك في الله في ليلةِ النِّصف مِن شعبان، في زمنِ الحسن البصري - رحمه الله تعالى - وحسُنتْ توبته، وأصبح مِن عباد الله الصالحين. وذكر أنَّ لصًّا دخَل بيْت مالك بن دِينار ليلاً ليسرقه، فلم يجدْ عنده شيئًا، فلمَّا أراد أن يخرج، قال له مالك: يا هذا دخلتَ بيتَنا ولم تجد شيئًا ينفعك في الدنيا، فهل أدلُّك على شيءٍ ينفعك في الآخِرة؟ فقال اللص: نعم، فأمرَه أن يتوضَّأ ويُصلِّي ركعتين، وهكذا بدأ الرجل بالصلاة، ولم ينتهِ حتى الفجر، فاصطحَبه مالكٌ معه إلى المسجد لصلاة الصبح، فسألوا مالكًا: مَنِ الرجل؟ فقال لهم مالك: جاء ليسرقَنا فسرقْناه!. وقيل: إنَّه رأَى شابًّا سكرانَ، يقول: الله، الله، فغسَل مالك فمَ الشاب السكران، وقال: لا يَنبغي أن يخرج هذا الاسمُ الكريم، من فمِ مخمور، فلمَّا نام مالك، سمع هاتفًا يقول له: يا مالك، طهرتَ فمَه من أجْل الله، فطهَّر الله قلْبَه مِن أجلك، فاستيقظ مالكٌ لصلاة الصبح، فوجَد الشاب أمامَه في المسجد! هذا هو التغيير الذي ننشده. • قُتِل معاوية على يدِ هاشم ودريد ابني حرْملة يومَ حوزة الأول سَنة 612م، فحرَّضتِ الخنساء أخاها صخرًا على الأخْذ بثأر أخيه، ثم قام صخر بقَتْل دُرَيد قاتل أخيه، ولكنَّ صخرًا أُصيب بطعنة دام أثرُها حولاً كاملاً، وكان ذلك في يوم كلاب سنة 615 م. فبَكتِ الخنساء على أخيها صخر قبلَ الإسلام وبعدَه حتَّى عميت، وفي الإسلام حرَّضتِ الخنساء أبناءَها الأربعة على الجِهاد، وقد رافقتْهم مع الجيش زمنَ عمر بن الخطَّاب، وهي تقول لهم: يا بَنيَّ، إنَّكم أسلمتُم طائعين، وهاجرتم مختارين، واللهِ الذي لا إله إلا هو، إنَّكم بنو امرأةٍ واحدة ما خنتُ أباكم، ولا فضحتُ خالَكم، ولا هجنتُ حسبَكم، ولا غيرتُ نَسَبكم، وقد تَعْلمون ما أعدَّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرْب الكافرين، واعْلموا أنَّ الدارَ الباقية خيرٌ من الدار الفانية؛ يقول الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200]. فإذا أصبحتُم غدًا إنْ شاء الله سالِمين فاغْدُوا على قِتال عدوِّكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتُم الحرْبَ قد شمَّرت عن ساقها، واضطرمتْ لظًى على سِياقها، وجللت نارًا على أوراقها، فتيمَّموا وطيسَها، وجالِدوا رئيسَها عندَ احتدام خميسها، تَظْفروا بالغُنم والكرامة في دار الخُلْد والمقامة، وأصْغَى أبناؤها إلى كلامِها، فذَهبوا إلى القِتال، واستشهدوا جميعًا، في موقعة القادسية، وعندما بلغ الخنساءَ خبرُ وفاة أبنائها لم تجزعْ ولم تبكِ، ولكنَّها صَبَرت، فقالت قولتَها المشهورة: الحمد لله الذي شَرَّفني باستشهادِهم، وأرجو من ربِّي أن يَجمعني بهم في مستقرِّ رحمته. ولم تحزنْ عليهم كحُزنِها على أخيها صخْر، وهذا من أثَر الإسلامِ في النفوس المؤمِنة، فاستشهادُه في الجهاد لا يَعْني انقطاعَه وخسارتَه، بل يعني انتقاله إلى عالَم آخر هو خيرٌ له من عالَم الدنيا؛ لِمَا فيه من النعيم والتكريم، والفَرَح بما لا عين رأت ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَر على قلْب بشَر؛ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[آل عمران: 169 - 170]، هذا هو التغيير المنشود. • مُصعَب بن عُمَير، نشأ في الحِلية، ورُبِّي في الرفاهية والنِّعمة، بيْن أبوين يُحبَّانه أشدَّ الحب، ويَحْنوان عليه أعظمَ الحنو، يَغذوانه بأطيبِ الطعام، ويَكسوانه بأحسنِ اللِّباس، وينشران عليه أجنحةَ العطف والإيثار، والرِّعاية والتدليل، فتًى مُنعَّم مدلَّل كهذا، ما الذي يجعله يَدَعُ هذه الحياةَ اللذيذة، الهادئةَ الهانئة، إلى حياةِ خُشونة وبأساء، وزلزلة وجِهاد، وغُرْبة وهِجرة؟! ما الذي جعَلَه يرْضَى بمفارقة الأهْل والوطن، ويرغب عنِ الثروة والجاه، ويفرُّ بدِينه مهاجرًا إلى الحَبَشة ثم إلى المدينة، حتى يموتَ في دار الهِجرة شهيدًا في غزوة أُحد، فلا يَجِد المسلمون له ثوبًا يَكْفِي لغطاء جسده، كل الذي وجدوه ثوبٌ قصير، إذا غُطِّي به رأسُه بَدَتْ رِجلاه، وإذا غُطِّيت به رجلاه، بدَتْ رأسه؟! لا شيءَ إلا الإيمان. يَرْوي ابن سعد، عن محمَّد بن شُرَحْبيل العَبْدري - أحد أقرباء مُصعَب - هذه الكلماتِ في وصْفه، يقول: كان مصعبُ بن عُمَيْر فتَى مكة شبابًا وجمالاً وسبيبًا، وكان أبواه يُحبَّانه، وكانتْ أمُّه مليئةً كثيرةَ المال، تكسوه أحسنَ ما يكون من الثياب وأرقَّه، وكان أعْطر أهل مكَّةَ، يلبس الحضرمي من النِّعال، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدْعو إلى الإسلام في دارِ الأرْقم بن أبي الأرْقم، فدخَلَ عليه فأسلم وصدَّق به، وخرَج فكتَم إسلامَه؛ خوفًا من أمِّه وقومه، فأخذوه فحَبَسوه، فلم يزلْ محبوسًا حتى خرَجَ إلى أرْض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجَع مع المسلمين حين رَجَعوا، فرَجَع متغيِّرَ الحال، قد حرج؛ يعني: غلظ. • عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وأرضاه - الذي كان جبَّارًا في الجاهلية، يرقُّ قلبُه لكلمات الله في سورة طه، فيستجيب لصوتِ القرآن، ويُلبِّي نداءَ الإيمان، فلمَّا أسلم كان يقول: لو أنَّ بغلةً عثرت على شطِّ العراق، لسألني الله عنها: لِمَ لم تمهِّدْ لها الطريقَ يا عمر؟! ما الذي غيَّرَ هذه النفوسَ: هند والخنساء، ومصعب والفاروق عمر - رضي الله عنهم - جميعًا؟ إنَّه الإسلام، إنَّه الإيمان، إنَّه الاستعدادُ للتغيير، إنَّه التغييرُ الحقيقي الذي ننشُده، حتى يتحقَّق وعْدُ الله لنا بالنصر؛ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 40 - 41]. وحتى يتحقَّق وعْدُ الله لنا بالاستخلافِ والتمكين؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55]. اللهم سَدِّدْ خُطانا إليك، شرِّفنا بالعمل لدِينك، ووفِّقنا للجهادِ في سبيلك، وغيِّر حالَنا لمرضاتك، امنحْنا التقوى، واهدْنا السبيل، وارزقنا الإلهامَ والرشاد، اللهمَّ ارزُقْنا الإخلاص في القوْل والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ عِلْمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمَّد وعلى أهله وصحْبه وسلِّم، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
Ghilizani المدير العام
لمُسَــاهَمَـــاتْ : 7258 العمر : 30 مزاج : تاريخ التسجيل : 05/05/2009
Subject: Re: الإسلام بين التغيير المنشود والعطاء الموعود Fri 31 Dec أƒ 18:29
نورت المنتدى بمواضيعك القيمة
للتهور جنون و للقيادة فنون وللردود رجل مجنون
تعاّهدنا مــــعاّ عـــلى الاخــلاص والـــوفــاء تعاّهدنا غداّ سنعلى راّية الجهاّد في السماء تعاّهدنا باّن نكون اّقوى من الحصون العلياء