محاضرة ألقاها: عبد المحسن بن حمد العباد البدر بالجامعة الإسلامية بالمدينة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات
أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن
لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه،
أرسله بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَه على الدِّين كلِّه، فبلَّغ الرسالةَ،
وأدَّى الأمانةَ، ونَصح الأمَّةَ، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك
ورسولك نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن سلَك سبيلَه واهتدى بِهُداه
إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فهذه لَمحاتٌ يسيرةٌ في الاستفادة من كتب الحديث الستة وهي؛ صحيح البخاري، وصحيح
ص -4- مسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة.
فأقول:إنَّ
أعظمَ نعمة أنعم اللهُ تعالى بها على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم أن
بَعث فيها رسولَه الكريم محمداً عليه أفضل الصلاة وأتَمّ التسليم، ليُخرجهم
به من الظلمات إلى النور، فقام بهذه المهمة خيرَ قيام، وأدَّى ما أرسله
الله تعالى به على التمام والكمال، فما ترك خيراً إلاَّ دلَّ الأمّة عليه
ورغّبها فيه، وما ترك شرّاً إلاَّ حذَّرها منه ونَهاها عنه، صلوات الله
وسلامه وبركاته عليه.
وكان التوفيقُ حليفَ صحابته الكرام رضي الله تعالى
عنهم وأرضاهم؛ إذ اختارهم الله تعالى لصحبته، وشرَّف أبصارَهم في الحياة
الدنيا بالنَّظر إلى طلعته، ومتَّع أسماعَهم بسماع حديثه الشريف مِن فمه
الشريف صلوات الله وسلامه عليه، فتَلَقَّوا عنه
ص -5- القرآن، وكلَّ ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم مِن قول أو فعل أو
تقرير، وأدّوه إلى مَن بعدهم على التمام والكمال، فصاروا بذلك أسبقَ الناس
إلى كلِّ خير، وأفضلَ هذه الأمّة التي هي خير الأمم. ثمَّ بعد أن انقرض عصر
الصحابة بدأ تدوينُ الحديث وجمعه بأسانيده إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وتتابع التأليفُ في تدوين السنة حتى جاءت المائة الثالثة التي ازدهر
فيها التأليف، وكان مِن أهمِّ المؤلفات التي أُلِّفت في السُّنَّة على
الإطلاق؛ صحيح الإمام أبي عبد الله محمد ابن إسماعيل البخاري رحمه الله،
المولود سنة (194هـ) والمتوفى سنة (256هـ)، وصحيح الإمام أبي الحسين مسلم
بن الحجّاج النيسابوري، المولود سنة (204هـ) - وهي السنة التي توفي فيها
الإمام الشافعي رحمه الله - والمتوفى سنة (261هـ)، ثمَّ سنن الأئمة
الأربعة:أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة (275هـ)،
ص -6- وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة (303هـ)، وأبي
عيسى محمد بن عيسى الترمذي المتوفى سنة (279هـ)، وأبي عبد الله محمد بن
يزيد بن ماجة القزويني المتوفى سنة (273هـ).
وهذه الكتبُ هي التي اشتهرت بالكتب الستة، وقد لَقيت عنايةً خاصةً واهتماماً كبيراً من العلماء فيما يتعلق بمتونها ورجالها.
وأوَّلُ
هذه الكتب صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله، وهو أصَحُّ الكتب
المؤلَّفة في الحديث على الإطلاق، ويليه في الصحة صحيحُ الإمام مسلم رحمه
الله، وهذان الكتابان لقيا عنايةً فائقةً، وذلك لعناية مؤلِّفِيهما بجمع
كثير مِمَّا صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَم يسْتوعبَا كلَّ
صحيح، ولَم يلتزِمَا ذلك، بل يوجدُ خارج الصحيحين أحاديثُ كثيرةٌ صحيحة،
ولكن الذي في الصحيحين جملةٌ
ص -7- كبيرة من الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وما
اتَّفقَ عليه الشيخان البخاري ومسلم - رحمهما الله - هو أعلى درجة مِمَّا
انفرد به أحدهما، وعلى ذلك فإنَّ درجات الصحيح بالنسبة لما رواه البخاري
ومسلم أو لَم يَرْوِيَاه سبعُ درجات:
الأولى: ما اتفق عليه البخاري
ومسلم، والثانية:ما انفرد به البخاري، والثالثة:ما انفرد به مسلم،
والرابعة:ما كان على شرط البخاري ومسلم ولم يخرِّجاه، والخامسة:ما كان على
شـرط البخاري ولم يُخرِّجه، والسادسة:ما كان على شرط مسلم ولم يخرّجه،
والسابعة:ما لم يكن في الصحيحين وليس على شرطهما وهو صحيح.
فهذه درجاتٌ سبع للحديث الصحيح، وأعلاها كما تقدم ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وأحسنُ
ص -8- كتاب أُلِّف في ذلك كتاب "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه
الشيخان" للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي المتوفى سنة (1388هـ)، وقد رتَّبه
وفقاً لترتيب الإمام مسلم، وأمّا النص الذي يثبته فمن صحيح البخاري، حيث
يختار أقربَ لفظ في صحيح البخاري يوافق ما في صحيح مسلم فيثبته، وإنَّما
أتى به على ترتيب مسلم؛ لأنَّ الإمام مسلماً رحمه الله يجمع الأحاديث
المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد فيسردها، ويذكر حديثاً يعتبره أصلاً
ثمَّ يأتي بالطرق الأخرى والأسانيد ويذكر الإضافات والنقصَ والفروقَ التي
بينها وبين الحديث الذي اعتبره أصلاً، فيثبت الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي
لفظَ الحديث عند البخاري في موضعه من صحيح مسلم ثمَّ يقول:أخرجه البخاري في
كتاب كذا، باب كذا، ويذكر رقم الكتاب ورقم الباب، وإنَّما لم يثبته على
ترتيب البخاري؛ لأنَّ
ص -9- البخاريَّ يُقطِّع الأحاديث ويفرّقها في أبواب متعددة للاستدلال
بها على ما يترجم به من المسائل، لأنَّه أراد أن يكون كتابه كتاب رواية
ودراية، وقد بلغ مجموع الأحاديث في كتاب "اللؤلؤ والمرجان" (1906) حديث.
ويقول
العلماء عند العزو لما كان في الصحيحين:رواه البخاري ومسلم، أو أخرجه
الشيخان، أو متفق عليه، وعبارة"متفق عليه" في الاصطلاح المراد بها اتفاق
البخاري ومسلم، إلاَّ عند المجد ابن تيمية جدّ شيخ الإسلام ابن تيمية صاحب
"منتقى الأخبار" الذي شرحه الشوكاني في "نيل الأوطار"، فإنه يريد "بمتفق
عليه" بالإضافة إلى البخاري ومسلم، الإمام أحمد في المسند، فإذا قال:متفق
عليه، فإنه يعني الثلاثة.
ص -10- 1 - صحيح البخاري
صحيح الإمام البخاري أصحُّ كتب السُّنَّة،
وموضوعُه الأحاديث المسندة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد
أراد البخاري أن يكون كتابُه كتابَ دراية، بالإضافة إلى كونه كتابَ رواية؛
كتاب حديث وفقه، من أجل ذلك اتَّبع طريقةً تَميَّز بها عن الإمام مسلم في
صحيحه، وذلك بتقطيع الأحاديث وتفريقها وإيرادها تحت أبواب، من أجل
الاستدلال بها على ما يترجم به، ومع تكرار الأحاديث في مواضع متعددة لا
يخلي المقامَ من فائدة إسنادية أو متنية. وذلك أنَّه إذا أورد الحديث
مكرراً يورده عن شيخ آخر، فيُستفاد من ذلك تعدُّدُ طرق الحديث، والأحاديث
التي كررها إسناداً ومتناً قليلةٌ جداً تزيد على العشرين قليلاً، كما أشار
إلى ذلك الحافظ في الفتح (11/340) وكما في كتاب كشف الظنون (/363).
ص -11- وقد ذكرت مواضع تلك الأحاديث في الفائدة (254) من كتابي "الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى".
وهذه
الطريقة التي اتَّبعها البخاري في تفريقه الأحاديث على الأبواب ترتَّب
عليها وجودُ بعض الأحاديث في غير مَظنَّتها، فظنَّ بعضُ العلماء خلوَّ
الكتاب منها كما حصل للحاكم رحمه الله في المستدرك حيث استدرك على البخاري
أحاديث، وقال إنَّه لم يخرجها مع وجودها في صحيح البخاري، ومن أمثلة ذلك
الحديث الذي رواه البخاري (2284) في كتاب الإجارة في النهي عن عَسْب
الفَحْل، فقد استدركه الحاكم على البخاري فوهم، قال الحافظ في شرح الحديث:
"وقد وهم في استدراكه، وهو في البخاري كما ترى، وكأنّه لَمّا لَم يره في
كتاب البيوع توهم أنَّ البخاري لم يخرجه".
ص -12- وأمَّا فقهُ البخاري فهو واضح من تراجمه التي وصفها الحافظ ابن
حجر في مقدمة الفتح بكونها حيَّرت الأفكارَ وأدهشت العقولَ والأبصارَ،
وبكونها بعيدةَ المنال منيعةَ المثال، انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه،
واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه.
ومن أمثلة دقَّته في تراجمه قوله في
كتاب الإجارة: "باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهرٍ
أو بعد سنة جاز وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل" والمقصودُ من
هذه الترجمة أنَّ مدة الإجارة لا يشترط فيها أن تكون تالية لوقت إبرام
العقد، وأورد تحت هذه الترجمة حديث عائشة رضي الله عنها (2264) في استئجار
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه رجلاً من بنِي
الدِّيل هادياً خرِّيتاً ودفعَا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث
ليال.
ومن منهج البخاري في صحيحه أنه قد يروي
ص -13- الحديث في موضع واحد بإسنادين عن شيخين فيجعل المتن للشيخ الثاني
منهما، أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (1436) وقال:"وقد ظهر
بالاستقراء من صنيع البخاري أنَّه إذا أورد الحديثَ عن غير واحد فإنَّ
اللَّفظَ يكون للأخير، والله أعلم".
ومن منهج البخاري أيضاً في صحيحه
أنَّه إذا مرَّت به لفظةٌ غريبةٌ توافق كلمةً في القرآن أتى بتفسير تلك
الكلمة التي من القرآن، فيكون بذلك جمع بين تفسير غريب القرآن والحديث،
أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح في مواضع متعددة انظر على سبيل المثال
(3/196، 324، 343).
والحافظ ابن حجر - عليه رحمة الله - تَمكَّن من
معرفة اصطلاحات البخاري ومنهجه في صحيحه، وقد ذكرتُ في كتاب "الفوائد
المنتقاة من فتح الباري
ص -14- وكتب أخرى" جملةً كبيرةً من الفوائد المتعلقة بذلك من الفائدة (226) إلى (284).
ولأهميَّة
صحيح البخاري لقي عنايةً من العلماء في مختلف العصور، وكان على رأس الذين
وفِّقُوا للعناية بهذا الكتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة
(852هـ)، فقد شرحه شرحاً نفيساً واسعاً جمع فيه ما اقتبسه من غيره مِمَّن
تقدَّمَه، وما وفَّقَه الله لفهمه واستنباطه من ذلك الكتاب العظيم، وذلك في
كتابه "فتح الباري" الذي يُعتبر حداً فاصلاً بين مَن سبقه ومَن لحقه،
فالذين تقدَّموه جَمع ما عندهم، والذين تأخروا عنه صار كتابُه مرجعاً لهم،
وقد طُبع كتاب "فتح الباري" في المطبعة السلفية في مصر، واشتملت الأجزاء
الثلاثة الأولى منه على تعليقات نفيسة لشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز
ص -15- رحمه الله1، وقد أُثبت في هذه الطبعة ترقيم أحاديث الكتاب التي
وضعها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي. وطريقته في الترقيم أنَّه يُثبت في
أوَّل موضع يَرِدُ فيه ذكرُ الحديث أرقامَه في المواضع الأخرى التي تأتي
بعد ذلك، وعند ورود الحديث في تلك المواضع لا يشير إلى الموضع الأول الذي
ذُكرت فيه الأرقام، ويمكن الاهتداء إلى الموضع الأول بالنظر في شرح الحافظ
ابن حجر للحديث، فقد يشير فيه إلى المواضع المتقدمة، ويمكن ذلك أيضاً
بالرجوع إلى "فهارس البخاري" لرضوان محمد رضوان، فإنَّه عندما يأتي للمواضع
التي تكرر فيها ذكر الحديث يقول:انظر كذا رقم كذا، مشيراً إلى الكتاب الذي
ورد فيه ذكر الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألقيت هذه
المحاضرة قبل عشرين سنة، وجرى تحريرها لطباعتها هذا العام (1423هـ)، وكانت
وفاة شيخنا رحمه الله في السابع والعشرين من شهر المحرم عام (1420هـ).
ص -16- أول مرة ورقمه.
وعددُ كتب صحيح البخاري سبعةٌ وتسعون كتاباً،
وعددُ أحاديثه بالتكرار كما في ترقيم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي (7563)
حديثٍ، وفي صحيح البخاري اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً.
2 - صحيح مسلم
وصحيحُ الإمام مسلم يلي صحيحَ البخاري في الصحة، وقد
اعتنى مسلمٌ - رحمه الله - بترتيبه، فقام بجمع الأحاديث المتعلقة بموضوع
واحد فأثبتها في موضع واحد، ولَم يُكرِّر شيئاً منها في مواضع أخرى، إلاَّ
في أحاديث قليلة بالنسبة لحجم الكتاب، ولَم يضع لكتابه أبواباً، وهو في حكم
المُبوَّب؛ لجمعه الأحاديث في الموضوع الواحد في موضع واحد.
ومِمَّا تَميّز به صحيح الإمام مسلم إثبات الأحاديث بأسانيدها ومتونها كما هي من غير تقطيع
ص -17- أو رواية بمعنى، مع المحافظة على ألفاظ الرواة، وبيان مَن يكون
له اللفظ منهم، ومن عبَّر منهم بلفظ حدثنا، وبلفظ أخبرنا، وقد أثنى الحافظُ
ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم في كتابه "تهذيب التهذيب" على حُسن عنايته
في وضع صحيحه، فقال:"قلت:حصل لمسلم في كتابه حظٌّ عظيم مفرط لَم يحصل لأحد
مثله، بحيث إنَّ بعضَ الناس كان يُفضِّله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك
لِمَا اختَصَّ به من جَمع الطرق وجَودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ
كما هي، من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نهج على منواله خَلقٌ من
النيسابوريين فلم يبلغوا شَأْوَه، وحفظت منهم أكثرَ مِن عشرين إماماً
مِمَّن صنف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهاب".
وقد قام الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله
ص -18- بالعناية بإخراج صحيح مسلم ووضع فهارس له متعددة مفصلة، وطُبع
الكتاب بعمله هذا في أربعة مجلدات أَثبت فيها تراجم الأبواب التي وضعها
الإمام النووي - رحمه الله - وهي ليست من عمل مسلم، كما قام بترقيم
الأحاديث الأصلية فيه فبلغت
(3033) حديثٍ، وبلغ مجموع كتب صحيح مسلم
أربعة وخمسين كتاباً، ووضع الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي مجلداً خامساً
مشتملاً على الفهارس المتنوعة المفصلة لصحيح مسلم رحمه الله، وأعلى
الأسانيد في صحيح مسلم الرباعيات.
3 - سنن أبي داود
كتاب السنن لأبي داود كتابٌ ذو شأن عظيم، عُنِيَ
فيه مؤلِّفه بجمع أحاديث الأحكام وترتيبها وإيرادها تحت تراجم أبواب تَدلُّ
على فقهه وتَمَكُّنه في الرواية والدراية، قال فيه أبو سليمان الخطابي في
ص -19- أول كتاب "معالم السنن": "وقد جَمع أبو داود في كتابه هذا من
الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدِّماً سبقه
إليه ولا متأخراً لحقه فيه".
وللحافظ المنذري تهذيب لسنن أبي داود
وللإمام ابن القيم تعليقات على هذا التهذيب، وقد وصف ابن القيم - رحمه الله
- "سنن أبي داود" و"تهذيب" المنذري وما علقه عليه فقال: "ولَمَّا كان كتاب
السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني - رحمه الله - من الإسلام
بالموضع الذي خصَّه الله به، بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في
موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبِحُكمه يرضى المحققون،
فإنَّه جمع شَملَ أحاديث الأحكام، ورتَّبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام،
مع انتقائها أحسن انتقاء، واطّراحه منها
ص -20- أحاديث المجروحين والضعفاء، وكان الإمام العلامة الحافظ زكي
الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله تعالى - قد أحسن في اختصاره
وتهذيبه، وعزوِ أحاديثه وإيضاح علَله وتقريبه، فأحسن حتَّى لَم يكد يدع
للإحسان موضعاً، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً:جعلت كتابه من أفضل الزاد،
واتخذته ذخيرة ليوم المعاد. فهذَّبتُه نحو ما هذَّب هو به الأصل، وزِدتُّ
عليه من الكلام على عِلَل سكت عنها أو لَم يُكملها، والتعرض إلى تصحيح
أحاديث لم يصححها، والكلام على متون مشكلة لم يفتح مُقفلَها، وزيادة أحاديث
صالحة في الباب لَم يشر إليها، وبسطت الكلام على مواضع جليلة، لعلَّ
الناظرَ المجتهد لا يجدها في كتاب سواه".
وكتاب سنن أبي داود مقدَّمٌ على غيره من كتب السنن الأخرى، وقد بلغ مجموع كتبه خمسة وثلاثين
ص -21- كتاباً، وبلغ مجموع أحاديثه (5274) حديث.
وأعلى الأسانيد في
سنن أبي داود الرباعيات وهي التي يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيها أربعة أشخاص. ولسنن أبي داود عدة شروح من أشهرها عون المعبود
لأبي الطيب شمس الحق العظيم آبادي.
4 - سنن النسائي
صنَّف الإمامُ النسائي - عليه رحمة الله - في السنن
كتابين هما؛ السنن الكبرى، والصغرى التي اختصرها منها، ويُقال لها المجتبى
أي:المختارة من الكبرى، والسنن الصغرى هي التي لقيت عنايةً خاصة من
العلماء، وهي التي اعتُبِرَت أحد الكتب الحديثية الستة، وهو كتاب عظيم
القدر، كثير الأبواب، وتراجم أبوابه تدل على فقه مؤلفه، بل إنَّ منها ما
تظهر فيه دقَّةُ الإمام النسائي في الاستنباط، ومن أمثلة ذلك:قوله في أوائل
كتاب الطهارة:"الرخصة في
ص -22- السِّواك بالعشي للصائم"، وهي مسألة للعلماء فيها
قولان:أحدهما:منع الاستياك بعد الزوال، قالوا:لأنَّه يُذهب الخُلُوف الوارد
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَخُلُوف فمِ الصائم أَطيَبُ عند الله مِن
ريحِ المسك"، والقول الثاني:الجواز لدخوله تحت عموم قوله صلى الله عليه
وسلم: "لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهم بالسِّواك عند كل صلاة"، وقد
أورد النسائي هذا الحديث تحت هذه الترجمة، وهو أرجح القولين في المسألة
لدلالة الحديث على ذلك، قال السِّندي في حاشيته على السنن مُنَوِّهاً بدقة
الإمام النسائي قال:"ومنه يؤخذ ما ذكره المصنف من الترجمة، ولا يخفى أنَّ
هذا من المصنف استنباط دقيق وتيقظ عجيب، فللَّه درُّه ما أدقَّ وأحدَّ
فهمه".
وأعلى الأسانيد في سنن النسائي الرباعيات، وقد بلغ مجموع كتبه واحداً وخمسين كتاباً وبلغت
ص -23- أحاديثه"5774" حديثٍ، وأحسن طبعات هذا الكتاب الطبعة التي حققها
ورقمها ووضع فهارسها مكتب تحقيق التراث الإسلامي - دار المعرفة بيروت،
فإنَّه عند كل حديث يذكر رقمه، وأرقام مواضعه الأخرى عند النسائي، ويذكر
تخريج بقية أصحاب الكتب الستة، وأرقام الحديث عندهم، ورقمه في تحفة
الأشراف.
5 - سنن الترمذي
سنن الترمذي ويقال له الجامع، مِن أهم كتب الحديث
وأكثرها فوائد، اعتنى فيه مؤلِّفُه بجمع الأحاديث وترتيبها، وبيان فقهها،
وذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في المسائل الفقهية، ومن لم يذكر
أحاديثهم من الصحابة أشار إليها بقوله:وفي الباب عن فلان وفلان، واعتنى
ببيان درجة الأحاديث من الصحة والحسن والضعف، وفيه
ص -24- أحاديث رباعية كثيرة، وفيه حديث ثلاثي واحد أخرجه الترمذي في
كتاب الفتن (2260) فقال: "حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابنة السدي
الكوفي، حدثنا عمر بن شاكر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض
على الجمر".وقال:هذا حديث غريب من هذا الوجه" انتهى.
وفي إسناده عمر بن شاكر وهو ضعيف، لكن الحديث صحيح بالشواهد، انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني رقم (957).
وعددُ
كتب جامع الترمذي خمسون كتاباً، وعدد أحاديثه (3956) حديثٍ، وأحسن شروح
جامع الترمذي كتاب "تحفة الأحوذي" للشيخ عبد الرحمن المباركفوري المتوفى
سنة (1353هـ).
ص -25- 6 - سنن ابن ماجه
سنن ابن ماجه سادس الكتب الستة على القول
المشهور وهو أقلُّها درجة، قال الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن ماجه في تهذيب
التهذيب: "كتابه في السنن جامعٌ جيِّدٌ كثيرُ الأبواب والغرائب وفيه أحاديث
ضعيفة جدًّا، حتى بلغني أنًَّ السريَّ كان يقول:مهما انفرد بخبر فيه فهو
ضعيفٌ غالباً، وليس الأمرُ في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه
أحاديثُ كثيرةٌ منكرةٌ، والله المستعان".
وإنَّما اعتُبِر سادسُ الكتب الستة لكثرة زوائده على الكتب الخمسة، وقيل سادسها الموطأ لعُلُوِّ إسناده، وقيل السادس سنن الدارمي.
وأحسن
طبعاته الطبعة التي أخرجت بعناية الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي التي رقم
فيها الأحاديث فبلغت (4341) حديثٍ، وبلغت كتبه سبعة وثلاثين كتاباً،
ص -26- وذكر الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في كلام له في آخر السنن أنَّ أحاديثَه الزائدة على الكتب الخمسة بلغت (1339) حديثٍ.
وفي
سنن ابن ماجة خمسة أحاديث ثلاثيات الإسناد، كلُّها من طريق جُبارة بن
المغلِّس، عن كثير ابن سُليم، عن أنس رضي الله عنه، ثلاثةٌ منها في كتاب
الأطعمة (3356) (3357)، (3310)، وفي كتاب الزهد واحد (4292)، وواحد في كتاب
الطب (3479)، وجُبارة وكَثير انفرد ابن ماجة عن بقية أصحاب الكتب الستة
بإخراج حديثهما، وقال عنهما الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب إنَّهما
ضعيفان، وهذه الأحاديث الخمسة من زوائد سنن ابن ماجة على الكتب الخمسة.
وقد ألَّف الشيخ أحمد بن أبي بكر البوصيري المتوفى سنة (840هـ) كتاب "مصباح الزجاجة في
ص -27- زوائد ابن ماجة"، وبلغت أحاديثه في بعض طبعاته (1552) حديثٍ.
وهذه
الكتب الستة لَقيت من العلماء عنايةً في أطرافها ورجالها، وأحسن ما ألِّف
في أطرافها كتاب أبي الحجاج المزي "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" وقد
رتَّبه على أسماء الصحابة رضي الله عنهم، وعند كلِّ صحابي يَذكر أسماء
التابعين الذين رووا عنه على الترتيب، ثمَّ يذكر الأسانيد من الأئمة أصحاب
الكتب الستة إلى التابعين، وهذا الكتاب العظيم يُعتبر بالنسبة للأسانيد
بمثابة نُسَخ أخرى لتلك الكتب الستة.
وأحسنُ ما أُلِّف في رجالها بل في
رجال مؤلفات أصحابها كتاب "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" لأبي الحجاج
المزي، فإنَّه مشتملٌ على أسماء رجال الكتب الستة ورجال مؤلفات أخرى لأصحاب
ص -28- الكتب الستة مثل رجال الأدب المفرد، وجزء القراءة خلف الإمام، وخلق أفعال العباد للبخاري وغيرها.
وأمّا الكتاب المقتصر على رجال الكتب الستة فهو كتاب الكاشف للذهبي.
وقد
اعتنى الحافظ أبو الحجاج المزي عند ترجمة كلِّ راوٍ بذكر شيوخه وتلاميذه
مرتَّبين على ترتيب حروف الهجاء، ثمَّ يذكر ما قيل في صاحب الترجمة من جرح
وتعديل، ويختم الترجمةَ بذكر أسماء الذين خرَّجوا أحاديثَه من الأئمة الستة
في كتبهم وفي أوَّل الترجمة يُثبتُ الرموز لهم.
وقد هذَّب كتابه هذا
الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب، فيذكر عند كلِّ ترجمة بعضَ شيوخ
الراوي وتلاميذه وما ذكره المزي مِمَّا قيل فيه، ثمَّ يَختم الترجمةَ بذكر
إضافات أخرى مبدوءة بقوله:(قلت)، وعندما ينظر طالبُ العلم في ترجمة الراوي
ص -29- في تهذيب التهذيب وما اشتملت عليه من جرح وتعديل يتساءل! ما هي
النتيجة التي انتهى إليها الحافظ ابن حجر في الحكم على الراوي؟ والجواب على
هذا التساؤل موجود عند الحافظ ابن حجر في كتابه تقريب التهذيب، فيقول عنه
ثقة أو صدوق أو ضعيف أو غير ذلك.وكتاب المزي تهذيب الكمال هذّبه أيضاً
الذهبي في كتابه تذهيب تهذيب الكمال، ولَخَّصه الخزرجي في خلاصة تذهيب
تهذيب الكمال.
والفرقُ بين ما في التقريب والخلاصة أنَّ الحافظ ابن حجر
في التقريب يثبت رأيَه في الراوي ويذكر طبقته، وأما الخزرجي في الخلاصة
فإنَّه يذكر بعض شيوخ الراوي وبعض تلاميذه ويذكر بعض ما قيل في الحكم عليه
جرحاً أو تعديلاً، وعند ذكر الصحابي يذكر عددَ الأحاديث التي له في الكتب
الستة، وعددَ
ص -30- ما اتفق عليه البخاري ومسلم منها، وعددَ ما انفرد به كلُّ واحد منهما عن الآخر.
وفي
كتاب تهذيب الكمال للمزي وما تفرع عنه من الكتب ذكرُ رواة ليس لهم رواية
عند أصحاب الكتب الستة، ذُكروا لتمييزهم عن رواة مذكورين قبلهم لهم رواية
عند أصحاب الكتب الستة، والرمز لهم في هذه الكتب بكلمة (تمييز) عند
الترجمة.
فمثلاً:كثير بن أبي كثير جاء في هذه الترجمة خمسة رواة؛ الأول
روى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير، والثاني روى له
البخاري في الأدب المفرد، والثلاثة الباقون ليس لهم رواية وإنَّما ذُكروا
لتمييزهم عن الاثنين قبلهم.
وقد جمع أبو نصر الكلاباذي رجالَ صحيح البخاري في مؤلَّف خاص، وجمع أبو بكر بن منجويه الأصبهاني رجال صحيح مسلم في مؤلَّف خاص،
ص -31- وجمع بين الكتابين الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي
المعروف بابن القيسراني، واسم كتابه "الجمع بين رجال الصحيحين" وكلُّها
مطبوعة، وكتاب ابن القيسراني مختصر، وطريقته فيه أنَّه عندما يذكر التراجم
التي تحت اسم واحد كأحمد مثلاً:يذكر من اسمه أحمد عند البخاري ومسلم، ثمَّ
من اسمه أحمد عند البخاري ثمَّ من اسمه أحمد عند مسلم، ومِن أجلِّ فوائده
أنَّ الراويَّ إذا كان قليلَ الرواية، فإنَّه يذكر مواضعَ أحاديثه في
الصحيحين أو أحدهما، وذلك بذكر الكتاب الذي ورد فيه الحديث.
وقد ألَّف
الشيخ يحي بن أبي بكر العامري اليمني في الصحابة الذين لهم رواية في
الصحيحين أو أحدهما كتاباً سماه "الرياض المستطابة في جملة من روى في
الصحيحين من الصحابة"، وهو كتاب عظيم الفائدة.
ومن المناسب ذكرُه هنا أنَّ للحافظ الذهبي كتاباً
ص -32- اسمه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" اشتمل على تراجم لرجال ورد
ذكرهم في تهذيب الكمال وما تفرع عنه، وعلى تراجم لرجال غيرهم، وفيه ثقات
ذَكرَهم لا لِنقْدِهم وإنَّما للدفاع عنهم؛ مثل علي بن المديني، وعبد
الرحمن بن أبي حاتم.
وللحافظ ابن حجر كتاب كبير سَمّاه "لسان الميزان"
بناه على كتاب الميزان للذهبي مع زيادات كثيرة عليه، وقد قصره على تراجم
رجال لا ذكر لهم في كتاب تهذيب الكمال وما تفرع عنه، وهو يُعتبر إضافة رجال
آخرين إلى رجال أصحاب الكتب الستة.
وقد جمع متون الكتب الستة وسادسها
الموطأ أبو السعادات ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول"، وهو مطبوعٌ
متداولٌ، وقد هذّب به كتاب رَزين العبْدَري "التجريد للصحاح والسنن"، ويرمز
عند كلِّ حديث
ص -33- للَّذين خرَّجوه من الأئمة الستة، وفيه أحاديث زائدة على ما في
الكتب الستة وهذه الزيادات لرَزين، وعلامتها في جامع الأصول خلوها من
الرموز أمامها.
وابن الأثير رَتَّب كتابه "جامع الأصول" على كتب مرتبة على حروف الهجاء، فيذكر في كلِّ كتاب ما يتعلق بموضوعه.
وإذا
أراد طالبُ العلم الوقوف على حديث في الكتب الستة وهو يعرف متنه فيمكنه
ذلك بالبحث عنه في مَظنته من الكتب التي اشتملت عليها الكتب الستة؛ فإذا
كان الحديثُ يتعلق بالإيمان مثلاً بحث عنه في كتاب الإيمان من الصحيحين
والسنن، وإذا كان يعرف اسم الصحابي راوي الحديث رجع إلى "تحفة الأشراف"
للحافظ المزي، فإنه يذكر أماكن وجود الحديث في الكتب الستة، أو رجع إلى
كتاب "ذخائر
ص -34- المواريث في الدلالة على مواضع الحديث" للشيخ عبد الغني النابلسي
فإنَّه يذكر طرف الحديث، ويذكر من خرَّجه من أصحاب الكتب الستة بالإضافة
إلى الإمام مالك في الموطأ، مع ذكر شيخ المؤلف فيه.
ويُمكن الاهتداءُ
إلى موضع الحديث في الكتب الستة بمعرفة بعض الكلمات في الحديث المعين فيرجع
إلى كتاب "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" الذي بني على الكتب الستة
والموطأ وسنن الدارمي ومسند الإمام أحمد، فيبحث عن الكلمة، فإذا كان
الحديثُ في هذه الكتب وجد الدلالة على موضعه منها، وذلك بذكر اسم الكتاب
ورقم الباب، إلاَّ في صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك فإنَّه يكون بذكر اسم
الكتاب ورقم الحديث فيه، وإلاَّ في مسند الإمام أحمد فإنَّ الإشارة فيه إلى
الجزء والصفحة من الطبعة ذات الستة أجزاء.
ص -35- في الختام:أسأل الله عز وجل أن يوفِّقَنا جميعاً لما فيه رضاه،
وأن يوفِّقَنا لتحصيل العلم النافع والعمل به، إنَّه سبحانه وتعالى جواد
كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين