وداع رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ها هو شهر الخير قد قوضت خيامه ، وتصرمت أيامه ، فحق لنا أن نحزن على فراقه ، وأن نذرف الدموع عند وداعه .
وكيف
لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندرك غيره أم لا ؟ كيف لا تجري دموعنا
على رحيله ؟ ونحن لا ندري هل رفع لنا فيه عمل صالح أم لا ؟ وهل ازددنا فيه
قرباً من ربنا أم لا ؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات ، وتكفير السيئات ،
وإقالة العثرات ؟! .
يمضى رمضان بعد أن
أحسن فيه أقوام وأساء آخرون ، يمضى وهو شاهد لنا أو علينا ، شاهد للمشمر
بصيامه وقيامه وبره وإحسانه ، وشاهد على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه .
رمضان
سوق قام ثم انفض ، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ، فلله كم سجد فيه من
ساجد ؟ وكم ذكر فيه من ذاكر ؟ وكم شكر فيه من شاكر ؟ وكم خشع فيه من خاشع ؟
وكم فرّط فيه من مفرِّط ؟ وكم عصى فيه من عاص ؟ .
ارتحل
شهر الصوم ، فما أسعد نفوس الفائزين ، وما ألذ عيش المقبولين ، وما أذل
نفوس العصاة المذنبين ، وما أقبح حال المسيئين المفرطين .
لابد
من وقفة محاسبة جادة ننظر فيها ماذا قدمنا في شهرنا من عمل ؟ وما هي
الفوائد التي استفدناها منه ؟ وما هي الأمور التي قصرنا فيها ؟ فمن كان
محسناً فليحمد الله وليزدد إحسانا وليسأل الله الثبات والقبول والغفران ،
ومن كان مقصراً فليتب إلى مولاه قبل حلول الأجل .
تذكر
أيها الصائم وأنت تودع شهرك سرعة مرور الأيام ، وانقضاء الأعوام ، فإن في
مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين ، وعظة للمتعظين قال عز وجل: { يقلب الله
الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } (النور 44) ، بالأمس القريب
كنا نتلقى التهاني بقدومه ونسأل الله بلوغه ، واليوم نودعه بكل أسىً ،
ونتلقى التعازي برحيله ، فما أسرع مرور الليالي والأيام ، وكر الشهور
والأعوام .
والعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة ،
فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت ، فهيهات أن تعود مرة أخرى ، فاغتنم أيام
عمرك قبل فوات الأوان ما دمت في زمن الإمكان ، قال عمر بن عبد العزيز : "
إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل أنت فيهما " ، وقال ابن مسعود رضي
الله عنه : "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد
فيه عملي " .
وتذكر دائماً أن العبرة بالخواتيم
، فاجعل ختام شهرك الاستغفار والتوبة ، فإن الاستغفار ختام الأعمال
الصالحة ، وقد قال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره : {إذا
جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك
واستغفره إنه كان تواباً } (سورة النصر) ، وأمر سبحانه الحجيج بعد قضاء
مناسكهم وانتهاء أعمال حجهم بالاستغفار فقال جل وعلا : { ثم أفيضوا من حيث
أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } (البقرة 199) .
كان
سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه ثم يهتمون
بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده ، كما وصف الله عباده المؤمنين بأنهم :
{يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } ( المؤمنون 60) ، فهل
شغلك أخي الصائم هذا الهاجس وأنت تودع شهرك ، قال علي رضي الله عنه : "
كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز
وجل : {إنما يتقبل الله من المتقين } ( المائدة 27) ، وكان ينادي في آخر
ليلة من شهر رمضان : " ياليت شعري من هذا المقبول منَّا فنهنيه ومن هذا
المحروم فنعزيه ، أيها المقبول هنيئاً لك ، أيها المردود جبر الله مصيبتك "
.
اللهم لك الحمد أن بلغتنا شهر
رمضان ، اللهم تقبل منا الصيام والقيام ، وأحسن لنا الختام ، اللهم اجبر
كسرنا على فراق شهرنا ، وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، واجعله
شاهداً لنا لا علينا ، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار ، واجعلنا فيه
من المقبولين الفائزين.