رواد المسلمين في علم الحيوان وأهم إنجازاتهم
كان من أشهر الذين ألّفوا عن الحيوان وغلب على تناولهم الطابع اللغوي: النضر بن شميل (ت 204هـ، 820م)، ومن آثاره كتاب (الصفات في اللغة)، الذي يتكون من خمسة أجزاء، خصص الجزء الثالث منه للإبل،كما تناول الغنم والطير وخلق الفرس من بين ما تناول في الجزأين الرابع والخامس.
وكذلك أبو زياد بن عبدالله الكلابي (ت نحو سنة 200هـ، 815م) وله كتاب (الإبل)، وهشام الكلبي (ت 204هـ، 819م) ومن تصانيفه (أنساب الخيل)، وأبو عبيدة التَّيمي (ت 207هـ، 823م) ومن مؤلفاته في الحيوان: كتاب الفرس؛ كتاب الإبل؛ كتاب الحيات؛ كتاب أسماء الخيل؛ كتاب البازي.
والأصمعي (ت 214هـ، 829م) ومن مصنفاته: خلق الفرس؛ الخيل؛ الإبل؛ الشاء؛ كتاب الوحوش، وابن السكيت (ت 243هـ، 857م)، ومن تصانيفه: كتاب الوحوش؛ كتاب الحشرات؛ كتاب الإبل، والدينوري (ت 282هـ، 895م) وله كتاب الخيل.
وهذا عرض ببعض من التفصيل لأبرز وأشهر علماء المسلمين الذين تناولوا الحيوان في أبحاثهم على النحو التالي:
الجاحظ:
ألّف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ، 869م) موسوعته الضافية بعنوان "الحيوان"، وهي مصنف يحتوي على معظم المعارف والمسائل الفلسفية والدينية والسياسية والجغرافية والطب والقرآن والحديث والفكاهة، أما بحثه في الحيوان، فقد درس فيه سلوكه وأعضاءه وتطوراته وطعامه وشرابه وسلاحه وطباعه وأمراضه وعمره وموطنه وأثر البيئة فيه وعلاقته بغيره من الحيوان.
قسَّم الجاحظ كتاب الحيوان إلى سبعة فصول، يتناول الجزءان الأول والثاني المناظرة بين الديك والكلب، مدعمًا رأي كل منهما بالآيات القرآنية أو الأحاديث النّبَوية أو الحكايات والحكم، ويتناول في الفصلين الثالث والرابع الحمام وأنواعه وطبائعه، والذباب والغربان والجعلان والخنافس والخفاش والنمل والقرود والخنازير والثيران، وفي الخامس والسادس يواصل البحث عن الثيران، ثم ينتقل إلى أجناس البهائم والطير الأليف، ويعقد مقارنة بين الإنسان والحيوان، ثم يتكلم عن الضب والهدهد والتمساح والأرنب، وفي الفصل السابع يتحدث عن الزرافة والفيل وذوات الأظلاف.
تناول الجاحظ في ثنايا كتاب الحيوان سلوك الحيوان والطير والحشرات، وفي سياق ذكره لطبائع الحيوانات يذكر ملاحظاته عن حاسة الشم الشديدة لدى بعض الحيوانات، والتعرق وتأثير المحيط على الحيوان، ويعطي أحيانًا بعض الملاحظات الفسيولوجية للمظاهر الخارجية للحيوانات كذوات الشعر وذوات الوبر وذوات الصوف وذوات الريش، وفي الكتاب معلومات غنية تتصل بتزاوج الحيوانات وتناسلها وعلاقاتها بأولادها.
كما اشتمل على ملاحظات علمية صحيحة كقوله: إن الخفافيش تلد ولا تبيض، وترضع، أما التمساح والسلحفاة والضفدع فإنها تبيض وتحضن بيضها، ومن ملاحظاته أن جميع الحشرات وجميع العقارب والذبابات والأجناس التي تعض وتلسع تكمن في الشتاء دون أكل أو شرب ما عدا النمل والنحل، فإنها تدخر ما يكفيها أثناء فترة سباتها.
ولم يكن الجاحظ يدلي برأيه في مسألة إلا بعد التمحيص الشديد، وقد قاده ذلك إلى إجراء العديد من التجارب ليثبت صحة ما ذهب إليه، من هذه التجارب تأثير الخمر في الحيوانات، والتولد الذاتي، ومما ذكر أنه إذا وُضِع "عقرب مع فأرة في إناء زجاجي، فليس عند الفأرة حيلة أبلغ من قرض إبرة العقرب؛ فإما أن تموت من ساعتها، وإما أن تتعجل السلامة منها، ثم تقتلها كيف شاءت وتأكلها كيف أحبت"، والتجربة توضح طبائع الحيوانات، وصراعها، وأيها أقتل للآخر.
ومن استقراء تجارب الجاحظ نجد أنه أشار إلى أثر العادة في الحيوان وبخاصة الكلب فيقول: إن له صديقًا "حبس كلبًا له في بيت وأغلق دونه الباب، في الوقت الذي كان طباخه يرجع فيه من السوق ومعه اللحم، ثم أَحَدَّ سكينًا بسكين فنبح الكلب، وقلق، ورام فتح الباب لتوهمه أن الطباخ قد رجع بالوظيفة (حصته من الطعام) وهو يحد السكين ليقطع اللحم، فلما كان العشي صنعنا به مثل ذلك لنتعرف حاله في معرفة الوقت فلم يتحرك"، وهذه التجربة تذكرنا بتجربة بافلوف التي أطلق عليها في علم النفس نظرية التعلم الشرطي، وفي ضوء هذه التجارب والملاحظات عَدَّه البعض أول علماء الحيوان التجريبيين. (موقع: "الموسوعة العربية العالمية" بتصرف).
ونود أن ننوه هنا بأن كتاب الحيوان للجاحظ أديب العربية جدير بأن يطالعه كل مثقف عربي يهتم بماضي العرب وحاضرهم ومستقبلهم، ويريد أن يصل فرعه بجذور ثقافته الأصلية.
فالكتاب من أهم ما بقي من كتب الجاحظ، وأنه من أول الثمار التي أنتجتها دراسة العرب المسلمين للطبيعة، كما أنه وثيق الصلة بعلم الكلام؛ لأن مؤلفه سعى إلى إظهار وحدة الطبيعة، وإثبات أن الأجزاء المكونة لها، متساوية القيمة في نظر المتأمل، وأن الجاحظ لم يقتصر على دراسة الحيوانات الكبيرة فحسب، بل أظهر شيئا من الميل الى دراسة الحشرات والمخلوقات المتناهية في الصغر.
وقد ذكرت دائرة المعارف: إن في الكتاب نظريات علمية كالتطور والتأقلم، وعلم النفس الحيواني، ولكنها كانت في دور التكون حينئذ، واكتملت في أيامنا هذه، وقد شبه بعض الدارسين الجاحظ بـ ديكارت، فكل منهما يلجأ إلى الشك في سبيل الوصول إلى الحقيقة، ولكن الفرق بينهما أن ديكارت يشك في كل شيء، على حين أن الجاحظ يجعل لليقين مواضع موجبة له، وللشك مواضع موجبة له، فلا يجعل كل شيء موضعا للشك.
يذكر الباحثون أن الجاحظ ألف كتاب الحيوان وهو ابن سبعين سنة، أي بعد أن اختمر عقله واستوى فكره واتسعت تجربته، وقد أَلَّفه وهو مصاب بداء الفالج في الجانب الأيسر من جسده.