الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فإن الإنسان بطبيعته يعاشر الناس ويأنس بصحبتهم ويتخذ منهم إخوانا وأحبابا يفرح بهم ويركن إليهم إذا نزلت به الخطوب بعد الله ويودعهم أسراره ويبث إليهم همومه ويشاورهم في أموره وقد يحتاج إلى خدمتهم ومعونتهم ويكون لهم أيضا عونا لهم يحسن إليهم.
والناس فيهم الكريم واللئيم فيهم من إذا أحسنت إليه شكرك وعرف لك الجميل وذكرك بالذكر الحسن وكافأك على المعروف متى ما سنحت له فرصة ولو بكلمة طيبة متبعا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أن قد كافأتموه). رواه أبوداود.
ومنهم اللئيم من إذا أحسنت إليه تمرد وكفر معروفك وأنكر جميلك وتناساك وجفاك إذا انتهت مصلحته وتمت فائدته وهذا الضرب كثير في هذا الزمان والله المستعان.
إن الشخص الكريم بطبعه محب للإحسان والفضل إلى الغير برأيه ووقته وجهده وعلمه وشفاعته وماله لكن كثيرا من الكرماء لا يميزون بين الناس بين من يستحق الإحسان ومن لا يستحق ولذلك تقع لهم مش
وتواجههم عقبات في حباتهم العملية مما تصيبهم بالإحباط أو تسبب لهم الانقطاع عن بذل الخير أو غير ذلك من الآثار النفسية. قال علي بن عبد الله بن عباس : (وزهدني في كل خير صنعته إلى الناس ما جربت من قلة الشكر).
إن نكران الجميل وقلة الوفاء من الأخلاق الذميمة التي نهى عنها الشرع وحذر منها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) رواه أحمد. وهو يدل على سوء الخلق وقلة المروءة وفساد الرأي وأنانية النفس وضعف الإيمان وغيره من صفات السوء. إنه إنكار للفضل وجحود بالإحسان الذي من الله به على عباده وفتح عليهم به وكفران للنعم كما في الترمذي: (من صنع إليه معروف فوجده فليجز به فإن من أثنى فقد شكره ومن كتم فقد كفره). ومن كانت عادته كفران نعم الخلق وترك شكرهم كانت عادته كفران نعم الله وترك شكره. فلا يليق بالعاقل أبدا أن ينكر الإحسان ويتنكر له. إن اعتراف الإنسان بفضل الغير ومعروفه لا ينقص من قدره ولا يحط من منزلته بل يعلي قدره عند الله وفي عيون الخلق.
إن المؤمن ينبغي عليه أن يكون وفيا شاكرا لأهل الإحسان ذاكرا للجميل حسن العهد بمن أحسن إليه يحفظ الود ويرعى حرمة من له صحبة وعشرة طويلة لا ينسى المعروف لأهله ولو طال به الزمان. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الوفاء لمن أحسن إليه وكان يقبل الهدية ويثيب عليها ويذكر المعروف ويجازي به بل كان يفعل أعظم من ذلك يشكر من أحسن إلى الناس فقد أعتق ابنة حاتم الطائي مكافأة لإحسان أبيها وفضائله على الناس وألبس المنافق عبد الله بن أبي بن سلول قميصه كفنا له مكافأة لمعروفه في إعطائه قميصه لعمه العباس يوم أسر في بدر وأوصى بالإحسان إلى الأنصار والتجاوز عن عثراتهم مقابل ما بذلوه في نصرة الدين والإحسان إلى المهاجرين وأوصى بأهل مصر خيرا لنسبه ومصاهرته لهم في مارية القبطية.
ومن أعظم مشاهد الوفاء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حسن عهده بخديجة رضي الله عنها وذكره لها بالخير وتعاهده لصوحيباتها بالصلة والبر ثبت في صحيح البخاري قالت عائشة: (وربما ذبح الشاة ، ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة). وذلك لعظم معروفها ونصرتها لدعوته ومؤازرتها له بمالها وجاهها ورأيها في أشد المواقف. ومن محبته لها وذكره لمحاسنها بعد موتها غارت منها عائشة رضي الله عنها تقول: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فعرف استيذان خديجة فارتاع لذلك ، فقال: اللهم هالة . قالت : فغرت فقلت : ما ذكر من عجوز من عجايز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها). رواه البخاري. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حسن العهد من الإيمان).
وقد كان السلف الصالح يعرفون الفضل لأهله ويجازون الإحسان بالإحسان ويكافئون أهل المعروف ولا ينكرونه. لما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر بن يحي وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى الكعبة وقال : اللهم إنه كان قد كفاني مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة. ومكث الإمام أحمد أربعين سنة ما بات ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي وفاء بمعروفه في تعليمه الفقه والأصول.
إن نكران الجميل له صور مشاهدة في حياتنا تتكرر مع الأيام مع الولد والزوج والزوجة والجار والقريب والبعيد وتروى في هذا الباب قصص غريبة وأحوال عجيبة. ومن أشنع صور نكران الجميل ما يلي:
1- أن يحسن الشيخ للتلميذ ويرشده للهداية ويدله على طرق الخير ويفني الأوقات الطويلة في تعليمه العلم وتفقيهه في دين الله ويصبر على جهله وسوء أدبه وعجلته فإذا كبر التلميذ وصلب عوده وأصاب حظا من العلم وأدرك المسائل وصار من أهل العلم جفا شيخه وتناسى معروفه ولم يحفظ له الجميل ولم يقر بالفضل لأهله وربما أساء إليه وتطاول عليه وصار عاقا به.
2- أن تحسن الزوجة إلى الزوج وتكون كريمة معه بمالها وتضحي لأجله وتقف معه حال فقره وشدته وتقدم له الشيء الكثير في سبيل إرضائه ومحبته وربما كان مريضا فتصبر وتحتسب وتسهر عليه فتبذل كل ما تملك في سبيل شفائه فإذا استغنى الزوج وصلحت حاله وأقبلت عليه الدنيا رحل عنها وطردها وشردها في الوقت التي تكون في أمس الحاجة إلى عطائه وإحسانه فينسى معروفها ويتناساها ويقابل الإحسان بالإساءة وربما ذكرها بسوء.
وبعض المحسنين يشتكون أهل زمانهم في قلة الشكر والنكران للجميل وعدم الوفاء فإلى هؤلاء أقدم لهم وصايا نافعة:
أولا: إذا أحسنت فاجعله لله وتعامل مع الله ولا تتعامل مع الخلق ولا تنتظر من أحد جزاء ولا شكورا.
ثانيا: إحرص على اختيار الشخص المناسب من أهل المروءة والفضل الذي يستحق الإحسان والبذل.
ثالثا: إتق شر من أحسنت إليه وكن على حذر منه.
رابعا: وطن نفسك على تغير أحوال من أحسنت إليهم وتوقع منهم النكران والجفاء.
خامسا: لا تجعل إحسانك للناس وعطائك على حساب أهلك ونفسك مما يلحق الضرر بك ويسبب لك الحرج إلا إذا تيقنت أن إحسانك في موضعه وأن معروفك في أهل العلم والفضل ممن يتقرب إلى الله بخدمتهم وإيثارهم.
سادسا: عند بذلك للإحسان والفضل كن واثقا بالله معتمدا عليه ثم على قرارك المناسب ورأي أهل الحكمة ولا تلتفت أبدا إلى أقاويل الناس وإشاعاتهم التي تسفه الكريم على بذله وإحسانه وتذمه على منعه وإمساكه فإن من أرعى سمعه لكلام الناس اختلطت عليه الأمور وتوقف عن عمل الخير والناس لا يرضيهم شيء.