ليست
قصة حب عميقة وعنيفة فقط، بل هى قصة حياة تجلت بكل صورها، القبيح منها
والجميل داخل تفاصيل العلاقة بين المغنواتى »حسن« وربة الصون والعفاف
الجميلة «نعيمة»، بين كل موال وموال، وبين كل همسة وغمزة من عين «حسن»
قاصدا بها قلب «نعيمة» ستعثر على ما تريده، جرعة رومانسية كافية لأن تطوف
بخيالك جنة الله فى سماواته، وعشوائية مجتمع يحكمه تخلفه ويدفعك دفعا لأن
تفكر مرات فى تدميره ونسفه، حتى تضمن حياة هادئة لكل حسن ونعيمة سيأتون فى
المستقبل.
مصر وريفها يملكون تلك الأسطورة الشعبية الرومانسية «حسن ونعيمة»، والصغار
قبل الكبار يعرفون من هو حسن، ومن هى نعيمة، إن لم يكن عن طريق ربابة
الراوى، أو حكاوى الجدة قبل النوم، فمن المؤكد أن سعاد حسنى وطلتها الأولى
على شاشة السينما قد تكفلت بتعريف مصر كلها من هى نعيمة، وكيف أحبت حسن
المغنواتى وسجلت اسمهما كثنائى آخر شهير فى دفتر تاريخ العشاق بجوار قيس
وليلى وروميو وجولييت وغيرهما.
«حسن ونعيمة» هما البديل الشعبى لأسطورة «روميو وجولييت»، الفرق الوحيد أن
روميو وجولييت وجدا عناية فائقة من جمهورهما فزادوهما شهرة على شهرتهما
بالمسرحيات والروايات والمسلسلات والأفلام.. حتى الكارتون منها، أما حسن
ونعيمة فلم يجدا حظهما إلا عند حامل الربابة، يطوف بقصتهما ليحكى للناس
قائلا: (أصل القضية بنية حلوة ونعيمة، وأهلها أغنياء بالمال ونعيمة، لكين
الهوى لو هوى فى بحر ونعيمة، الحب خلى الغزالة اتعلقت بالنمس، وفاتت
الأهل، لساك تقول المبادئ تتبلى بالنمس).
اسمع رواية لحسن النمس ونعيمة: (حسن المغنى كان يغنى فن وليالى، ويندعى
بالطلب لأفراح وليالى، ودعوه فى ليلة وكانت حظ وليالى، فى منشية أبوحنبل
أول أسوان المنيا مركز بنى مزار، راح الجدع راح وقصده يبلغ المنية، والخلق
دنيا تقول ياعين ياليالى غنى الكروان، وألحان الندم شبابية، طلعوا البنات
فى العلالى وفتحوا الشبابيك، قالت نعيمة غرامى ياحسن، شبابيك بعتت له
منديل، وأسباب الغرام منديل والحب لجله اتصل واللى حصل منديل وفى قلته
ياليل فين نار الغرام شبابيك)
أصل الحكاية إذن تبقى عند حسن المغنواتى ونعيمة ابنة الحاج متولى صاحب
الثروة، الحريص على اقتناء المال والأرض، والذى تقع ابنته نعيمة فى حب حسن
المغنواتى ويبادلها المشاعرمن أول نظرة.. كما ورد فى الموال الذى يقول:
(بعد انتهاء الفرح قام الغريب روّح والخلق قامت ونوم العاشقين روّح ونعيمة
واقفة قباله وعقلها روّح قالت له: رايح فين ياحسن وخدت القلب وياك ،إنت
مسافر ياحسن وعقلى ذاهب وياك).
يتكرر لقاء الحبيبين، إلا أن يظهر عطوة قريب متولى الطامع فى الزواج من
نعيمة، ولذلك عندما يتقدم حسن لخطبتها، يرفضه والدها، لأنه مغنواتى فقير،
فتقرر نعيمة القرار الصعب وتتحدى التقاليد وتضرب بالمجتمع وتخلفه عرض
الحائط وتقرر الهرب والعيش فى بلدة حسن.. وتصرخ فى الموال: (أحسن طريقة
خدنى فى الديار وياك أروح ياحسن..) ويصرخ الرواى حزنا عليها وعلى قلبها
الذى انفطر قائلا: (ونعيمة وسط الليالى جفنها ما اتلم جرح المحبة اتسع..
جبار.. ما عاد يتلم حسك تلوم المبالى، يا عديم الدم طول ما انت خالى مالكش
فى الكلام مع ناس).
تهرب نعمية مع حسن وتستنجد به فى بلدته، يذهب متولى والحاج عبدالخالق إلى
بلدة حسن لاسترداد نعيمة، يضمر متولى الشر لابنته ويحبسها فى الدار ويعد
حسن بإعلان زواجهما، ولكنه يخلف وعده، يتحرش عطوة بحسن، يطلب حسن من متولى
الوفاء بوعده، ويحدث صدام عنيف.. صحيح أنه انتهى فى الفيلم نهاية سعيدة
بزواج حسن ونعيمة، إلا أن نهاية الرواية الشعبية كانت مختلفة تماما عن
الفيلم، رفعت أسرة نعيمة شعار غسل العار وقررت قتل حسن، رغم أنه وبشهادة
ابنتهم تصرف معها بنبل وكرم، ولكن تعصبهم الأعمى دفعهم لذبح حسن وإلقائه
فى النيل أو كما يقول صاحب الربابة: (ذبحه أهل نعيمة وألقوا بجثته فى
النيل، يومين فى البحر والتالت دفنته حنّت حانت ،طافت على بر بلده، حريم
البلد حنّت من الحنين ،إنما جثة بلا وش مين يقدر يأكده، بعتو لأمه العجوز
اللى الزمان كادها، قاطعة الخلف، والضنا عشرين سنة كادها غاظها وآلمها،
شافت ولدها باللبن حنَّ ثدياها).
لم تنته القصة بموت فارسها، حسن لم يكن مجرد عاشق ولهان، ونعيمة لم تكن
فتاة مراهقة، الحب هنا كان الإله، فلم يرض بأن تموت القصة حتى ولو مات
حسن، فبقيت الأسطورة علامة إذا ذكرت أو تحسس أحد تفاصيلها فلا يأتى بعدها
كلام سوى عن الحب والتضحية، وتصدم جثة حسن الجميع فيكتشفون حقيقة مجتمعهم
الذى يقتل الحب باسم العرف والتقاليد، باسم القاعدة التى تقول إن ابنة
الغنى لا يمكن أن تتزوج الفقير، صحيح أن أسطورة حسن ونعيمة عمرها قد يزيد
على المائة عام، إلا أنها تتكرر آلاف المرات دون أن ندرى، وإن أخذنا بها
خبرا فقد يكون عن طريقة مصيبة، تخبرنا أن أحدا قد انتحر، أو أن الأهل
يبحثون عن طريق يدلهم عن المكان الذى اختفت فيه نعيمة مع حسن.
لم تكشف جثة حسن ودموع نعيمة وغضبها عن حقيقة المجتمع القبلى المتعصب فقط،
بل أكدت بعد مرور كل هذه السنوات على ذكراها أننا أصبحنا نعيش فى مجتمع
غير قادر على ابتكار قصة أخرى تحمل نفس القدر من الرومانسية، مجتمع عاجز
عن خلق أسطورة حب جديدة، مجتمع غمرته عواطف تفاصيل علاقة حسن ونعيمة،
فأنجب من الأدباء والشعراء ما يفتخر بهم حتى زماننا هذا، ثم تحول إلى
مجتمع ينتج فقط قصص حب معلبة يسيطر عليها البيزنس أو غرف بيوت الدعارة،
تنتهى بفضائح أو بمصائب، ومصيرها صفحات الحوادث ومن صفحات الحوادث إلى
مقالب الزبالة.
استدعاء أسطورة «حسن ونعيمة» إلى الأذهان الآن، أمر أصبح فى غاية الضرورة،
للترطيب على قلب مجتمع أصبح أنشف من حجر الصوان كما يقولون، مجتمع بهرته
قصة حب مصطنعة فى الدراما التركية «نور» وشغف بمجموعة من التنهيدات
والتسبيلات والشعور الطائرة غافلا عن أن تراثه الشعبى يحمل من القصص ما
يمكن أن تخبره بالمعنى الحقيقى للحب والتسامح.