ألقى فاروق القدّومي (أبو اللطف)، أمين سِـر
حركة فتح، قُـنبلته حول
اغتِـيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وترك
شظاياها تتطايَـر في الجِـهات
الأربع، لتُـصيب الحركة الوطنية
الفلسطينية المُـعاصرة، تاريخيا وحاضرا
ومستقبلا، وتكشِـف ردود الفِـعل
المؤيِّـدة أو المُـعارضة لهذه القنبلة،
عن مستوى التّـدهور الذي عرفته
النُّـخبة السياسية الفلسطينية وصِـراعاتها
الدائرة خارج إطار الوطنية
التي كانت تحكمها في العقود الخمس الماضية.
وقُـنبلة القدومي تعتمِـد
أساسا على محضَـر اجتماعٍ فلسطيني – إسرائيلي -
أمريكي، عُـقِـد قبل
شهور من وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات، حضره الرئيس
الفلسطيني الحالي
محمود عباس (أبو مازن) ومعه محمد دحلان، ومن الجانب
الإسرائيلي ارئيل
شارون، رئيس الحكومة السابق وشاؤول موفاز، وزير الدفاع
فيما بعد، ووليم
بيرنز، المبعوث الأمريكي ومعه القنصل الأمريكي في تل أبيب
ومبعوث عن
جورج تينت، مدير المخابرات المركزية الأمريكية آنذاك.
وحسب المحضر
الذي قدّمه فاروق القدّومي في مؤتمر صحفي عقده في عمّـان يوم
الاثنين 13
يوليو 2009، فإن أفكارا طرحها أرئيل شارون حول اغتيال الرئيس
ياسر
عرفات وعدد من قادة الفصائل والمنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، كجزء
من
مخطط القضاء على ما يَـصفه بالإرهاب، لم تلق قبولا من عباس أو دحلان،
لأن
الاغتيالات، حسب ابو مازن، "ستفجِّـر الوضع وسيفقدنا السيطرة على كل
الأمور.
يجب بداية، أن نعمل من خلال الهُـدنة حتى نتمكّـن من السيطرة على
الأرض،
وهذا أنجح لكُـم ولنا"، مثلما ورد في نص المحضر.
".. أنا أعرف
عرفات جيدا.."
ويُـظهر المحضر أن معارضة عباس ودحلان لم تكُـن حادّة،
وطلَـبا من شارون
أن يترك غِـياب عرفات للقَـدر، خاصة وأنه لم يعُـد
يمتلِـك القوّة التي
كانت لديه سابقا، ويقول دحلان "عوامِـل النجاح
أصبحت بأيدينا، وعرفات أصبح
يفقِـد سيطرته على الأمور شيئا فشيئا،
وأصبحنا نُـسيطر على المؤسسات أكثر
من السابق، عَـدا عن القوّة الأمنية
المُـشتركة من الأمن الوقائي والشرطة،
وهي بقيادة العقيد حمدي الريفي.
وأنتم تعرفونَـه جيِّـدا، وقد أرسلنا لكم
كل الوثائق حول تلك المواضيع
بالتفصيل، وإن المهم أن هذه القوّة لا تخضع
لعرفات ولا تقبل مِـنه أيّ
أمر".
ويذهب أرئيل شارون بعيدا في طلب الخَـلاص من عرفات ويقترح
قتله مسموما،
ويردّ عليه أبو مازن بأن "ذلك قد يهدِّد مخطّـطا للقضاء
على الإرهاب".
شارون: "يجب أن تكون الخطوة الأولى، هي قتل عرفات
مسموماً، فأنا لا أريد
إبعاده إلا إذا كانت هناك ضمانات من الدولة
المعنِـية بأن تضعه في الإقامة
الجبرية، وإلا فإن عرفات سيعود ليعيش في
الطائرة".
أبو مازن: "إنْ مات عرفات قبل أن نتمكّـن من السيطرة على
الأرض وعلى كل
المؤسسات وعلى حركة "فتح" وكتائب الأقصى، فإننا قد
نواجِـه مصاعِـب كبيرة".
شارون: "على العكس تماماً، فلن تُـسيطروا
على شيء وعرفات حيّ".
أبو مازن: "الخطّـة أن نُـمرِّر كل شيء من
خلال عرفات، وهذا أنجح لنا
ولكم. وفي مرحلة الاصطِـدام مع التنظيمات
الفلسطينية وتصفية قادتها
وكوادرها، فإن هذه الأمور سيتحمّـل تبِـعاتها
عرفات نفسه، ولن يقول للناس
إن هذا فعل أبو مازن، بل فِـعل رئيس السلطة.
فأنا أعرف عرفات جيداً. لن
يقبَـل أن يكون على الهامش، بل يجب أن يكون
هو القائد، وإن فقد كل
الخِـيارات ولم يكن أمامه إلا الحرب الأهلية،
فإنه أيضاً يحبِّـذ أن يكون
القائد".
وضع كارثي.. وردود
فعل عنيفة
يقول أبو اللطف، إنه أرسل "المحضر – الوثيقة" إلى عرفات وأنه
طلب منه أن
يغادر أراضي السلطة الفلسطينية قبل أن تُـنفّـذ عملية
الإغتيال، لكن عرفات
رفض وتمسّـك بالبقاء، وقال إنه سبق أن زوّد عدداً
من أعضاء اللجنة
المركزية والمجلس الثوري للحركة قبل أكثر من سنة، بنسخة
من هذا المحضر،
وكذلك عدداً من الدول العربية.
بغضِّ النظر عن
صِـدقية المحضر وما ورد به من اتهامات وصلت إلى درجة
التآمر، خاصة وأن
هناك إجماعا فلسطينيا على أن ياسر عرفات مات مسموما، وأن
لجانا
شُـكِّـلت للتّـحقيق في كيفية وصول الإسرائيليين إليه، وإن كانت هذه
اللِّـجان
لم تنشط بالشكل الذي تفرِضه قضية خطيرة مثل هذه، فإن تقديمه
وإعلانه من
طرف فاروق القدّومي، أحد مؤسِّـسي حركة فتح، التي كانت
الرُّؤية
الوطنية للفلسطينيين وقائدة لحركتهم الوطنية منذ 1967 ويتولّى
أمانة سر
لجنتها المركزية، بالإضافة إلى رئاسته في منظمة التحرير
الفلسطينية
للدّائرة السياسية (وزارة الخارجية الفلسطينية)، جعل منها
الحدَث
الفلسطيني الأبرز منذ إعلان تفجير التوتّـر بين حركتَـيْ فتح وحماس
في
يونيو 2007 وإعلان الانقسام بين غزّة والضفة الغربية، ويؤشِّـر على
الوضع
الكارثي الذي تعيشه الحركة السياسية الفلسطينية وانعكاسها على الوضع
الفلسطيني
برمّـته.
ولقِـيت قنبلة القدّومي رُدود فعلٍ عنيفة من طرف
مُـعارضيه في حركة فتح،
الذين أصدروا بيانات ووجّـهوا قواعِـد الحركة
لإصدار بيانات أو إرسال
برقيات تُـدين القدّومي وتصِـفه بأبشع الأوصاف
والنُّـعوت الممزوجة
بالاتِّـهامات والتشكيك بالوطنية، كما أدان بيان
بإسم اللجنة التنفيذية
لمنظمة التحرير الفلسطينية، القدّومي
واتِّـهاماته لعباس وتوعّـدته بعقاب
تنظُـر فيه في اجتماع تعقِـده
قريبا، فيما التزمت الفصائل الفلسطينية
الأخرى الحِـياد، وإنْ كان عبد
الرحيم ملوح، عضو اللجنة التنفيذية ونائب
الأمين العام للجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين، أحد المقرّبين من أبو مازن قد
نفى عِـلمه ببيان
التنفيذية، وقال في بيان صحفي مكتوب "إن اللجنة
التنفيذية لم تجتمع منذ
حوالي أسبوعين، وبالتالي، لم تقف أمام تصريحات أبو
اللطف الأخيرة، ولا
شأن لي بالبيان الصّادر باسمها بهذا الصّدد، وأدعو
القائمين عليه إلى
وقف هذه التصريحات باسم اللجنة التنفيذية، وليس من
المصلحة الوطنية أن
يزج باللجنة التنفيذية لتكون طَـرفا في خِـلافات
داخلية في تنظيم قائد
وأساسي وعضو مؤسّـس في منظمة التحرير".
النخبة السياسية
الفلسطينية.. أزمة وضياع
أما مؤيِّـدو فاروق القدّومي أو معارضوه، فإنهم
يتَّـفقون على الرِّبط بين
قُـنبلته والمؤتمر العام السادس لحركة فتح،
الذي لم يُـعقد منذ 1989، وأن
الصِّـراع الذي تعرفه الحركة على عُـضوية
المؤتمر ومكان عقده منذ تشكيل
اللجنة التحضيرية وما أسفرت عنه، كانت
الخلفية التي لا ينكرها القدّومي
نفسه.
وبعد سنتين من تحضير
الصِّـراع، نجح أبو مازن في استِـصدار قرار من المجلس
الثوري للحركة
(هيئة وسيطة بين المؤتمر العام واللجنة المركزية) بعقد
المؤتمر في مدينة
بيت لحم، "تحت حِـراب الاحتلال، بهدف فرض برنامج سياسي
على الحركة يسقط
حقّ الشعب الفلسطيني في المُـقاومة ويحوّل حركة فتح إلى
حزب السلطة"،
حسب تصريحات القدّومي.
الهجومات على القدّومي والتشكيك به وبمحضره،
استندت إلى سكوته طِـوال
السنوات الخمس الماضية، وأنه كان من
المؤيِّـدين بقوّة لانتخاب محمود عباس
رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية
وللسلطة الوطنية الفلسطينية، ورغم أن
علاقتهما طِـوال هذه السنوات
اتّـسمت بالمدّ والجزْر، فإنه في أقصى درجات
الخِـلاف بينهما، لم تصل به
الأمور إلى حدّ اتِّـهامه بالمشاركة في
الإعداد لاغتيال عرفات، وأن
المصالح الشخصية كانت الحاكِـم لكل مواقِـفه
وتحرّكاته، التي تهدف إلى
افشال مؤتمر الحركة وتفتِـيتها.
من جهته قال محمود عباس، إن قضية
القدّومي "ستُـتابع على كافة المستويات،
التنظيمية وغير التنظيمية
وسيُـتابعها بالتفصيل ولن يُـنسَـكَـت عنها، لأن
ما أدلى به، مجموعة من
الأكاذيب فُـبْـركَـت لتخرج في هذا الوقت بالذّات،
مع العِـلم أن
القدومي يدّعي أن هذا المحضر موجود منذ خمس سنوات، فلماذا
لم يَـنشُـر
هذه القضايا قبل خمس سنوات، إذا كانت هذه القضايا والمعلومات
صحيحة
ومؤكّـدة، وهو نفسه يفهم أنها غير صحيحة، ولكن جاء الآن ليروي هذه
الأكاذيب
ليعطِّـل المؤتمر السادس للحركة".
وأكد عباس "أننا رغم كل الأكاذيب
والزّوبعات التي أثارها القدومي في
طريقنا إلى المؤتمر السادس لحركة
فتح في موعده ومكانه المحدّد في شهر
أغسطس في بيت لحم، لا أعتقد أن
العراقيل الموجودة في الساحة يُـمكن أن
تؤثر على المؤتمر".
ويبرِّر
أبو اللطف تأييده لانتخاب عباس رئيسا للسلطة والمنظمة، رغم حيازته
على
المحضر، إلى أن عباس هو العضو الوحيد من حركة "فتح" في اللّجنة
التنفيذية
لمنظمة التحرير المُـقيم في الداخل، ذلك أنه لحركة "فتح" ثلاثة
أعضاء
هم عرفات وعباس والقدومي نفسه، المقيم في الخارج وأن غالبية أعضاء
اللجنة
التنفيذية المقيمين في الداخل، والذين كانوا قد اجتمعوا بالفعل حين
تم
الاتصال به هاتفيا، كانوا مع انتخاب عباس، ولضرورة التأكّـد بنسبة
مِـئوية
كاملة من صحّـة ما ورد في المحضر من خلال مُـراقبة أداء عباس وعدم
ملاءمة
الظّـرف في تلك اللّـحظة، لتفجير معركة من هذا العِـيار داخل حركة
"فتح"
وداخل منظمة التحرير الفلسطينية.
وقال القدّومي، إن التجربة بيّـنت
صحّـة محتويات المحضر، ذلك أن عباس رفض
ابتداءً تشريح جثمان الرئيس
الراحل بهدف إجراء تحاليل تُـحدِّد الوسيلة
التي مات بها ونوْع السمّ
الذي استُـخدم لقتله، ومنع إجراء تحقيق بشأن
المتورّطين المُـحتملين
بتسميم الرئيس لمصلحة الإسرائيليين، وقال إن محمد
دحلان كان هدّد في
تصريحات علنية الرئيس عرفات بمواجهته إن لم يقدِّم
التنازلات المطلوبة
منه قبل العاشر من أغسطس 2004، كما أن الضغوط
الأمريكية والإسرائيلية
كانت نجحت في الفرض على عرفات تعيين عبّاس رئيسا
للوزراء، غير أن عرفات
مارس ضغوطا على عباس اضطرّته للاستقالة من رئاسة
الوزراء في مطلع سبتمبر
2003، أي قبل وفاة عرفات مسموما بسنة وشهرين، وقال
إن الاجتماع السرّي
الذي جمع عباس مع شارون وبيرنز بحضور دحلان، تمّ حين
كان عباس مُـستقيلا
من حركة "فتح" ولا يملك أية صفة تمثيلية في حركة "فتح"
أو السلطة أو
منظمة التحرير، التي كان أعلن كذلك استقالته من عضوية لجنتها
المركزية!
لا
أحد يعرف إلى أين ستسير حركة فتح ومعها الحركة الوطنية الفلسطينية،
وقنبلة
فاروق القدّومي بقدْر ما أضافت لهذه الحركة جُـرحا جديدا للجِـراح
المثخنة
بها منذ عدة سنوات والتي بيّنت مدى غورها، التشريعيات الفلسطينية
لعام
2006 وفوز حركة حماس بأغلبية السلطة التشريعية، ثم إخراجها بعد سنتين
من
قطاع غزة وتهميش السلطة الفلسطينية، رغم تحمّلها أعباء الإنتقادات
الموجّهة
إليها.
لكن ما هو مؤكّـد أن ما يشهده هذا التنظيم الذي قاد الحركة
الوطنية
الفلسطينية منذ سنوات طويلة، يمثل نموذجا لضياع النّخبة
السياسية
الفلسطينية وبحثها عن امتيازات في سلطة فاقدة للسيادة ومكبّـلة
باتفاقيات
وقّـعتها مع عدوِّها، الذي لا زالت جيوشه ومستوطناته تنتشِـر
على كل
الأرض، سلطة ليس لها من مظاهر السلطة إلا ..الإمتيازات!.