أهله علينا بالأمن والإيمان
من كتابات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي عن رمضان:
بعد أيام قليلة سيهلّ علينا بهلاله المبارك: شهر رمضان، (شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: من الآية185). شهر رمضان شهر تجديد
الإيمان، شهر تدارك المسلم ما فاته من تفريط في جنب الله. فيه يحاول كلّ
مسلم أن يتطهر من سيّئاته، وأن يضاعف من حسناته.. فهذا الشهر فرصة ليشحن
المسلم بطاريته الروحيّة والإيمانيّة التي فرغت، أو أوشكت أن تفرغ من
الغفلات واتباع الشهوات وإضاعة الصلوات. فيه فرصة ليخرج المسلم مغفور
الذنوب من هذا الشهر الكريم، فـ"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما
تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه
ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه". إنّها
فرصة للتطهّر والغفران.. ويا خيبة مَنْ أتاه هذا الموسم ولم يظفر منه
بمغفرة، هذا هو الشقيّ. الشقيّ من جاءه رمضان ولم يُغفر له، دعا جبريل،
وأمّن عليه محمّدٌ صلى الله عليه وسلم: "بُعدًا لمن أدرك رمضان فلم يغفر
له". هكذا قال جبريل، وقال محمّد صلى الله عليه وسلم: "آمين". فيا ويل مَنْ
دعا عليه جبريل وأمّن على دعائه محمّدٌ عليه الصلاة والسلام، أمين السماء
وأمين الأرض.. شهر رمضان فرصة للتطهّر والغفران، وقد ورد في حديث: أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا وقد حضر رمضان: "أتاكم رمضان شهر بركة
يغنيكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله
إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشقي من
حرم فيه رحمة الله عز وجل". فتنافسوا في الخيرات، لمثل هذا فليعمل العاملون
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..الشقيّ مَنْ حرم رحمة الله في رمضان.
بين استعداد السلف واستعدادنا
ولذلك كان السلف الصالح إذا أقبل رمضان يقولون: مرحبًا بالمطهّر! الذي
نتطهّر فيه من الذنوب والخطايا. ولذلك كانوا يتأهّبون لرمضان أمّا نحن
فنتأهب لرمضان ونستعدّ له، بإحضار ما لذّ وطاب من الطعام والشراب. انظر إلى
الناس في الأسواق والجمعيّات ماذا يعدّون رمضان؟! المسلمون يأكلون في
رمضان وينفقون في رمضان أضعاف ما ينفقون في الشهور الأخرى. فليس هو شهرًا
للإعداد للتقوى كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). لعلكم تتهيّأون للتقوى
بهذا الصيام، وتتعلمون فيه مراقبة الله عزّ وجلّ. فالمسلم يصوم عن الطعام
والشراب كما في الحديث القدسيّ: "يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي،
ويدع لذّته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي".
الصيام الحقيقي
الذي يفطم نفسه عن الشهوات التي كانت حلالاً له أولى به يفطم عن الحرام في شهر رمضان.
ليس الصيام أن يصوم بطنك وفرجك، وكلّ جوارحك مفطرة: لسانك يفطر على الكذب
والغيبة والنميمة والسّبّ والشتيمة، وعينك تفطر على رؤية الحرام في الطرقات
أو في التلفزيون، وكذلك أُذُنُك تفطر على سماع الأغاني الخليعة والكلمات
البذيئة...لا بدّ أن يصوم كلّك عمّا حرّم عزّ وجلّ.
فرمضان شهر لتربية الإرادة: شهر الصبر، الصبر يعني قوّة الإرادة، فلا بدّ
أن نتعلم من رمضان كيف...؟ كيف تقوى إرادتنا؟ لا بدّ أن نهيّئ أنفسنا لتقوى
الله في شهر رمضان، لنرتقي بأرواحنا.. بأنفسنا، لننافس الملائكة ويباهي
الله بنا الملائكة.
الفهم الخاطئ عن رمضان
أرى المسلمين أساؤوا فهم شهر رمضان، فهناك من ظنّوا أنّ شهر رمضان شهر
الكسل والبطالة، وهناك من ظنّوا أنّ شهر رمضان هو شهر الأكل والشرب طول
الليل والنوم طول النّهار، وهناك من اعتقدوا أنّ شهر رمضان شهر السهرات
المباحة (النّعنشة والفرفشة) شهر الفوازير المائعة، وهناك من اعتقد أنّ شهر
رمضان شهر السّباب والشّجار يسبّ الإنسان صاحبه ثمّ يقول الناس: اعذروه
فإنّه صائم! كأنّ الإسلام شرع الصيام ليفسد الأخلاق، والنّبيّ صلى الله
عليه وسلم يقول: "والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب،
فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إنّي امرؤ صائم" يقولها في نفسه، ويقولها
لصاحبها، إنّي صائم فلا ينبغي أن أخرق الصيام وأن أجرح الصيام.. حتى إنّ
بعض علماء السلف قالوا: إنّ مثل هذه الأشياء — من السّباب والغيبة
والنّميمة والكذب — تفطّر الصائم، أي كأنّما أكل أو شرب، وعليه أن يعيد
يومًا بدل هذا اليوم. وقال جمهور العلماء: لا، هي لا تفطّره، ولكنّها تضيّع
أجره.. فما أحمق هذا المسكين الذي يظلّ جائعًا عطشان يومًا كاملاً ثمّ لا
ينال من الأجر مثقال ذرّة. ضيّع ثوابه وأجره بهذا الهُراء..
فاستبقوا الخيرات
نحن في حاجة إلى أن نستبق الخيرات، وأن نفطم النّفوس عن الشهوات، وأن نسابق
في عمل الصالحات، وأن نصوم فنحسن الصيام، ونقوم فنحسن القيام..أنا أسمّي
رمضان: ربيع الحياة الإسلاميّة، فيه تتجدد العقول بدروس العلم والمعرفة،
وفيه تتجدّد القلوب بالإيمان والعبادة، وفيه تتجدّد الأسرة بالتلاقي
والترابط، ويتجدّد المجتمع كلّه بحسن الصلة والبحث عن الفقراء والمساكين
وإطعام الجائعين. فلا بدّ أن نستفيد من هذا الرّبيع وبالحياة الإسلاميّة
الإيمانيّة.. وما أحوجنا، ثمّ ما أحوجنا، إلى أن نستفيد من رمضان وروحانيّة
رمضان والجوّ الرباني في رمضان، ما أحوجنا إلى ذلك في أيامنا هذه،
والإسلام يهاجم من كلّ جانب، وأمّة الإسلام في أسوأ أحوالها، تمزّق وتشرذم
وضياع وهوان واستخذال أمام الأعداء.
الأمّة التي كان لها ماض مزدهر، الأمّة التي كان خليفتها يتحدى السّحابة في
السماء، هذه الأمّة أصبحت تستخذل وتستسلم أمام الأعداء، هذه الأمّة أصبحت
في مرحلتها الغثائيّة: ".. ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل"، الغثاء الذي يجمع
أشياء غير متناسبة وغير متناسقة: خشبٌ وحطبٌ وقشّ وورق وعيدان، ولا تناسق
بينها، وكلّها خفيفة سطحيّة، لا تنزل إلى الأعماق، وليس لها هدف تسعى إليه
ولا مجرى معلوم تمشي فيه.
هذه هي الأمّة في مرحلة الغثاء، ليس لها هدف واضح، ولا طريق معلوم..الأمّة
في هذه المرحلة في حاجة إلى أن تتلقّى دروسًا من رمضان، وتستفيد من هذا
الشهر الكريم، الذي وقعت فيه وقائع بين المسلمين وأعدائهم، انتصر فيها هذا
الدين، وعلت كلمة الإيمان وارتفعت راية القرآن:
بدر: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123).. وفتح مكّة:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ
فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إنه كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 — 3].. ومعركة عين جالوت:
التي انتصر فيها المسلمون على التتار في الخامس والعشرين من رمضان سنة
658هـ. ومعارك شتّى طوال التاريخ الإسلاميّ، حدثت في شهر رمضان. فعلينا أن
نستفيد من شهر رمضان.. أن نغذّي فيه أرواحنا بالإيمان واليقين.. أن نقوّي
الصلة فيه بربنا.. أن نستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
لقد هانت هذه الأمّة على نفسها، فهانت على ربّها، فهانت على أعدائها فما
عادوا يقيمون لها وزنًا، ولا يرعون لها حُرمة، ولا يرقبون فيها إلاًّ ولا
ذمّة.الأمّة في حاجة إلى أن تضع يدها في يد الله، الأمّة في حاجة إلى أن
تتداوى من داء الغفلة، فشرّ ما أصاب أمّتنا في هذه الفترة هو: الغفلة،
والغفلة داء وبيل، وداء عُضال. الله تعالى يقول لرسوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205)
لا تغفل عن ربك. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية 28).
لايمكن أن تنتصر هذه الأمّة وقد نسيت ربّها، فأنساها أنفسها، (نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة:
من الآية 67) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19). فلا بدّ أن تذكر
الأمّة ربّها ولاتيأس من روح الله.. في ساعات الشدائد لا يذكر الإنسان إلاّ
ربّه. ويقول ما قال ذو النّون حينما التقمه الحوت: (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الانبياء: الآية
87)) نادى في الظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. هل يظنّ
أحد ابتلعه الحوت أن ينجو؟ ولكنّ يونس — ذا النّون — لم ييأس وقد التقمه
الحوت وأصبح بطن الحوت قبرًا له، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) (الانبياء:88 — 89) ولذلك جاء في الحديث: "دعوة ذي النّون
إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين،
فإنّه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قطّ إلاّ استجاب الله له".