تبايَن موقف الناس من الحياة الدنيا، فمن منكبٍ عليها،
ولاهث وراء ملذاتها وشهوتها، ومن منصرف عنها زاهد فيها، لا يقيم لها وزناً،
ولا يلقي لها بالاً، وهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، ومن مقتصد في شأنها،
فآخذ منها بقدر يعينه على أمر دنياه وأخراه. فما هو موقف القرآن من الحياة
الدنيا، هل هو موقف الرافض لها المحذر منها، أم هو موقف القابل لها والداعي
إلى الانكباب على ملذاتها والتنعم بشهواتها، أم أن الأمر لا هذا ولا ذاك؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال نبادر
إلى القول: إن لفظ (الدنيا) ورد في القرآن
الكريم في مئة وخمسة عشر موضعاً، ورد في جميع تلك المواضع مجرداً عن
الإضافة إلى أي ضمير. وورد هذا اللفظ مضافاً إلى خمسة أوصاف: فقد أضيف إلى
وصف (متاع) في ثمانية مواضع، منها قوله سبحانه:
{ ذلك متاع الحياة الدنيا }
(آل عمران:14). وأضيف إلى وصف (العَرَض) في ثلاثة
مواضع. من ذلك قوله سبحانه: { تبتغون عرض الحياة الدنيا } (النساء:94). و(العَرَض) يعني: متاع
الدنيا قلَّ أو كَثُر. وأضيف إلى وصف (الزينة) في موضعين: أحدهما: قوله سبحانه: { تريد
زينة الحياة الدنيا } (الكهف:28). وثانيهما:
{ المال والبنون زينة
الحياة الدنيا } (الكهف:46). وأضيف إلى وصف
(الزهرة) في موضع
واحد وهو قوله سبحانه: { ولا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا } (طه:131)، وأضيف إلى وصف (الحرث)
في موضع واحد، وذلك قوله تعالى: { ومن كان
يريد حرث الدنيا نؤته منها } (الشورى:20). وهذه الأوصاف الخمسة التي أضيف إليها
لفظ (الدنيا) تدور حول معنى واحد، وهو ما أودعه الله في هذه الدنيا من
مغريات ومسرات ومفاتن؛ ابتلاء للعباد، واختباراً لهم؛ ليستبين الصالح من
الطالح، ويتضح أمر طالب الآخرة من طالب الدنيا.
واستقراء المواضع التي ورد فيها لفظ (الدنيا) في القرآن الكريم، يرشد إلى أن هذا اللفظ
جاء في سياقات ثلاثة: أولها:
التحذير من الدنيا. ثانيها: تفضيل الآخرة على
الدنيا. ثالثها: الأخذ بنصيب من الدنيا، مع جعل
الآخرة هي المقصد الأهم والأول. ونحن تالياً نفصل بعض الشيء في هذه
السياقات الثلاثة.
وما
الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
المتأمل في حديث القرآن الكريم عن الدنيا يجد أن
القرآن قد تضمن عدداً من الآيات تبلغ نحو من خمس وعشرين آية تحذر العبد من
مغريات الدنيا وتصفها بأنها متاع الغرور. فهي ليست أكثر من متاع يستخدمه
الإنسان في هذه الحياة إلى أن يصل إلى دار القرار.
نقرأ بداية قوله سبحانه في وصف هذه الحياة
وحقيقتها: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء
أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح }
(الكهف:45). فالحياة في حقيقتها - بحسب المثل
القرآني - أشبه بالدورة الزراعية، تبدأ بقطرات من الماء، ثم تنتهي بالهشيم
من الزرع، الذي تطير به الرياح، فتذروه هنا وهناك، كأن لم يكن شيئاً
مذكوراً.
والقرآن
في شأن الدنيا يقرر بكل وضوح وقوة وصراحة قِصَر هذه الحياة الدنيا
وتفاهتها، وتضاؤلها في جنب الحياة الآخرة، التي يعتبرها الحياة الحقيقية،
فيقول مثلاً: { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب
ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار
نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من
الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور }
(الحديد:20). فالدنيا بمباهجها ومفاتنها تبدو حلوة جميلة، كالنبات
الأخضر، لكن سرعان ما تغدو حطاماً لا قيمة لها ولا وزن، كحال الزرع حين
يذبل ويصفر.
وقد وصف سبحانه الحياة الدنيا في أكثر من موضع في كتابه
الكريم بأنها متاع الغرور؛ لأنها تغر العباد بالمغريات، وتغرر بهم إلى طريق
الشهوات، قال تعالى: { وما الحياة الدنيا إلا
متاع الغرور } (آل عمران:185). وبين موقف
الناس منها، بأنهم يفرحون بها، مع أن حقيقتها لا تستدعي هذا الفرح، كونها
مجرد متاع سرعان ما يفنى ويبلى، ما يستدعي عدم التعلق بها، والأخذ بالحذر
والتيقظ منها، قال تعالى: { وفرحوا بالحياة الدنيا
وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع }
(الرعد:26).
وحذر سبحانه عباده من الانجرار وراء مفاتن الدنيا الزائفة،
والانكباب على زخارفها الفانية، يقول سبحانه في هذا الصدد: { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم
فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط
ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } (هود:15).
والمراد هنا، أن من كان طالباً لمنافع الحياة ولاهثاً وراء زينتها، فإن
الله يُمد له في ذلك، ويعطيه إياها، استدراجاً له، ثم تكون عاقبته الخسران
المبين في الآخرة.
ويحذر القرآن الناس عموماً، والمؤمنين خصوصاً من مغبات هذه
الدار الفانية، { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا
يغرنكم بالله الغرور } (فاطر:5)؛ إذ إن
من طبيعة هذه الدار أن تغر من فيها بمتاعها وشهواتها وملذاتها، ومن طبيعة
النفس الإنسانية الميل لهذه الأمور والتشوف إلى الأخذ منها.
والقرآن الكريم يذم
ويُشنع على من يؤثر الدنيا الفانية العارضة، على الآخرة الباقية الخالدة،
يقول سبحانه: { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا
بالحياة الدنيا واطمأنوا بها * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون
} (يونس:7-8). ويخبر سبحانه عن مصير الطغاة
الذين آثروا الحياة الدنيا عن الآخرة فيقول: {
فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى } (النازعات:37-39). ووصف سبحانه السواد الأعظم من عباده
بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فقال: {
بل تؤثرون الحياة الدنيا } (الأعلى:16).
ومن ثم يقرر القرآن الكريم حقيقة
الحياة الدنيا بأنها لا تعدو كونها مقراً مؤقتاً للعمل، وداراً للابتلاء
والاختبار؛ لتمييز الصالح من الطالح، والمصلح من المفسد، والطيب من الخبيث،
يقول سبحانه في تقرير هذا المعنى: { الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا }
(الملك:2).
والآخرة
خير وأبقى
لم
يكتف القرآن ببيان حقيقة الدنيا والتحذير منها، بل قرر الوجهة الأساس التي
ينبغي على المسلم أن يجعلها نُصب عينه، وهي الدار الآخرة؛ إذ هي الدار
الحقيقية الباقية، وهي الجديرة بالاهتمام والاعتناء، ولا ينبغي للعاقل
الفطن أن يقدم ما يفنى على ما يبقى. نقرأ بهذا الخصوص عدداً من الآيات التي
تؤكد على هذا المعنى، من ذلك قوله تعالى: { وما
الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون } (الأنعام:32)، فالدار الآخرة عند التحقيق والتدقيق هي
الخير الحقيقي الباقي للإنسان، وما عداها
من خيرات الدنيا سرعان ما تزول وتبور، قال
تعالى: { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا
وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون } (القصص:60).
ونحو
ما تقدم قوله عز من قائل: { الذين يستحبون الحياة
الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد }
(إبراهيم:3). فالآية الكريمة سيقت مساق الذم
للذين يقدمون أمر الدنيا على أمر الآخرة، ما يفيد أن الذي ينبغي على المؤمن
حقاً أن يجعل الآخرة همه الأكبر؛ لأنها خير وأبقى، وما كان هذا شأنه كان
هو الأجدر بالاعتناء، والحقيق بالالتفات. والآيات النَّاصَّة على خيرية
الآخرة على الدنيا كثيرة.
ولا تنس نصيبك من الدنيا
إن تحذير القرآن من الحياة الدنيا، وترغيبه بالدار الآخرة
لا ينبغي أن يُفهم منه أن المسلم عليه أن يقف من الحياة الدنيا موقفاً
سلبياً جملة وتفصيلاً، فليس هذا الفهم مراداً للقرآن، بل إن الموقف
المتوازن من الدنيا أن يقف المسلم منها موقفاً متزناً، بحيث يجعل هذه
الدنيا في يديه لا في قلبه، فيأخذ منها ما يخدم دينه وآخرته، ويُعْرِض عنها
في كل ما يعود بالضرر عليه دنيا وأخرى، وهذا هو المساق الثالث الذي وردت
فيه آيات تدل على هذا المعنى.
فالقرآن الكريم يثني على من يجمع بين أمري الدنيا
والآخرة، فيقول: { ومنهم من يقول ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } (البقرة:201)،
ويقول على لسان نبي الله موسى عليه السلام: {
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } (الأعراف:156)، ويمدح
سبحانه خليله إبراهيم عليه السلام، فيقول: {
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين } (النحل:122).
ويخاطب القرآن عبادة بالاقتصاد في طلب الدنيا،
والأخذ منها بقدر، فيقول سبحانه: { وابتغ فيما
آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } (القصص:77). ويبين سبحانه أن طيبات الدنيا إذا أُخذت
باعتدال أمر لا حرج فيه، والحرج كل الحرج إنما يكون بالإفراط في الأخذ من
طيباتها، وتجاوز ذلك إلى حدِّ الوقوع في محرماتها، يقول سبحانه: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } (الأعراف: 31). ويذم سبحانه الذين يحرمون ما أحل الله
لعباده من الطيبات، وذلك قوله سبحانه: { قل
من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا
في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } (الأعراف:32).
ومما
يرشد إلى اهتمام القرآن بأمر الدنيا أنه سبحانه جعل من جملة غاية وجود
الإنسان في هذه الدنيا إعمارها بكل ما هو نافع، واستصلاحها بكل ما فيه خير،
يقول سبحانه في هذا الصدد: { هو أنشأكم من الأرض
واستعمركم فيها } (هود:61)، فالآية
الكريمة تبين أن الغاية من خلق الإنسان عمارة هذه الأرض على الوجه الأفضل،
واستغلالها على النحو الأمثل.
وبما تقدم يتضح لنا موقف القرآن من الحياة الدنيا، موقف
يجمع بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، ويلحظ الجانب المادي للإنسان
والجانب الروحي، ويوائم بين مقتضى العقل وحاجة العاطفة، موقف لا يقدم
الدنيا بإطلاق ويُنكر أمر الآخرة، ولا يقدم الآخرة بإطلاق ويلعن الدنيا وما
فيها من طيبات وخيرات، بل يأخذ من هذه لتلك، ويجعل الدنيا وسيلة للآخرة،
ويجعل الآخرة عاقبة لأعمال الدنيا.