الدموع الباسمة
يشتهر بين الناس تشبيه الأولين لعمل المصلح
المتجرد بشمعة، تحرق نفسها، لتضيء للآخرين.
وكان الكاتبون، أصحاب
الأقلام، والتدوين، والتأليف، والصحف، يرون أنفسهم أصفى هذه الشمعات،
ويظنون شعاعهم أوهج اللمعات، لما في وصف الناس للعلم بالنور من قرينة تصرف
تفسير التشبيه إليهم.
وذاك شرف، نعمّا هو، يحق معه لهم ولغيرهم أن
يتنافسوا في الانتساب إليه، والسباق إلى التحلي به.
ولكني رأيت من خفي
الحكمة ما هو أبرع في وصف الأقلام، ودورها في التوجيه، والبهجة التي
تبعثها، فقد أطل ذكي على ساحة الحياة، يتتبع مكامن البسمات بعد أن امتلأت
أحزانا، فاكتشفها فقال:
( لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم )
هكذا
هو الكاتب، وإنها لكذلك الأقلام حقا إذا سال منها المداد، وذرفت الدمعات
السود.
يجوب صاحب القلم الكبير الميادين، وتكون له سياحة في آفاق
الأعمال، كل الأعمال، وينقب في الماضي يستخرج السوابق، ثم يرجع يختلي، يقيس
ويقارن، ويحلل ويعلل، لتسطر دمعات قلمه التجارب وما وجد، لتجف دمعات قلوب
التائهين، ويكون ثم ابتسام.
إنها متاهات الحياة يهيم فيها أكثر البشر،
فتأتي تجارب المربين، عبر دموع الأقلام، تعصم من الخطأ وتوجه، وتنتشل من
التخبط وتسدد، وترسم الطريق وتخطط، فيعقل ساذج، ويتململ راقد، ويتنافس
قانع، ويتأنى متهور، وما بين هذا التعقل والتنافس، والإسراع والإبطاء: تكون
البصائر، وتتكشف أصول المباهج، فتغمر القلب برودة السكينة، بعد حرارة
القلق ولذعات الحيرة، وتنفرج أسارير الوجه عن ابتسام وضاء، بعد عبوس أو
ذهول.
هو هكذا واجب الأديب المسلم المربي، يتولى دوره هذا في إتمام دور
الفقيه إذا بين دلائل التوحيد، وحدد قواعد السلوك الشرعي، فيشرب ويفسر،
ويستشهد بتواريخ الناس وما كانت لهم من مواقف، ويذهب في الإقناع إلى مدى
التفصيل والتبسيط والتمثيل بعد إجمال أوجزه الفقيه.
فابتسامة من يبتسم
من الناس لن تأتي سهلة أبدا، والذين ما زالت أفواههم تفغر حيرة ليسوا
بقادرين على تصور ابتسامة تبتسمها الصفحات، ولا على فهم دور الأقلام فيها،
وجهد أصحاب هذه الأقلام.
أما أنها ليست كل كتابة ولا كل كاتب فنعم، فإن
السطور الباسمة تستلزم خلفية من التجريب ومن الانغماس الفعلي في الأعمال
والأحداث المحيطة، ولا يمكن أن توصف للكاتب التجارب وصفا مجردا، وتروى له
رواية، لينقلها بين أسطره، فإن مثل هذا وهذا كمثل سائح وراكب طائرة، فإن من
ركاب الطائرات من تنزل به طائرته قبل وصوله مقصده في مطارات مدينتين
وثلاث، فيرى هذه المدن من مسافة بعيدة، ويأخذ يصف لك حسن روما وجنيف
وباريس، ويحلف لك الأيمان أنه رآها، وما كذب، وإن كان لم يزر متحفا، ولا
استمتع بشاطئ بحيرة، ولا صعد برجا، وإنما هو راء لها من نافذة الطائرة حين
كانت تقترب من المطار وتنخفض، وحين كانت تقلع وتعلو.
كلا، بل هي ساعات
تأمل، وخلوات تفكر، وسياحة تعرف، يضطر خلالها الأديب أو المربي إلى أن يعصر
قلبه عصرا، لتسيل من قلمه الدمعات، لتبتسم على الورق الكلمات، تشارك في
منح شيء للناس…. اسمه الابتسام.
ولهذا يكون الإعراض عن القراءة من كبائر
الناس الكبيرة، ولعلها الموبقة الحادية عشر، بعد إذ أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم باجتناب العشر الموبقات، فإن المتلقين تجب عليهم همة
للقراءة توازي تلك الهمة التي عصرت الحكمة من قلوب الكاتبين.
إن من
مصائب أمتنا اليوم: أنها لا تقرأ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها، لأن
طريق الاستدراك طويل، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام، ليقودوا البقية،
وإنما الخطاب متجه لهذه الخاصة الرائدة القائدة، بل ولفتيان الدعوة
الميامين، الذين هم قادة المستقبل.
فنعم الفتيان، فتيان الدعوة، لو
قرأوا.
لقد عرفت شباب الإسلام، وصاحبتهم، واقتربت منهم، فوجدتهم من أنقى
الناس سريرة، وأنصعهم طهرا، وأصفاهم عقيدة، وأجزلهم وعيا، ورأيت منهم
تشميرا إلى الخير، في حرص دائب، وفرارا إلى الله تعالى من خلال طريق عريض
لاحب، لكنها كثافة المطالعة تنقصهم، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير
والحديث والفقه والتاريخ طويلا، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية
العامة جزيلا، لكملت أوصافهم، ولتفردوا في المناقب.
وإني لأعجب من دعاة
الإسلام الذين أراهم اليوم، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس،
والنشر في الصحف، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأويل آي
القرآن، وقبل أن يرفع له راية مع ابن حجر في فتحه، ولم ينل بعد من رفق أم
الشافعي وحنانها، ولا كان له انبساط مع السرخسي في مبسوطه، أو موافقة
للشاطبي في موافقاته؟
وكيف يقنع الداعية وهو لم يقرأ بعد المهم من كتب
ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي، وابن حزم؟
وكيف يسرع داعية إلى ذلك
وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي
حيان، أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان؟
وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسه
لهذه العلوم والآداب فيقول: ليس لي وقت، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا
مضاعفا، ولا شرع له السهر!
ثم أعجب أكثر إذا ذكرت له كتابا، فيأتيني من
الغد مغاضبا، لخطأ وقع فيه كاتبه، أو بدعة طفيفة، كأن العلم لا يؤخذ إلا من
صاحب سنة محضة وكتاب مصون!
وماذا عليك لو أنك قرأت ونقحت، وتخيرت
وانتقيت، وأخذت وأعرضت؟
لا شيء، وأنت الرابح، إذ الأصل في التعليم: صحة
المنهج، بأن تتلقى نصوص القرآن والحديث الصحيح بالتجلة والتعظيم، والتقديم
لها، بلا تلكؤ ولا رد، فإنك إن التزمت ذلك: لم يضرك ما يقع بيدك مع كتب
التفسير والحديث والفقه، من كتب الأدب والفكر العالمي وصحف السياسة، تقتبس
منها ما لا يضاد النصوص، وتخضع صوابها لخدمة منهجك، مفترضا في نفسك الشجاعة
والعقل والتمييز، فإنه لا داعي لاتهام نفسك بضعف أمام خطأ المفكرين وإغراب
الكاتبين، ما دام منهجك صوابا، ونفترض فيك مقدرة وافية على اكتشاف الخطأ
والميل والابتداع، وإنما ذاك هو المبتدئ الذي ما زال يحبو : نوصيه بالقرب
وعدم الإيغال، وبالتجزيء وترك الاكتيال، وبالالتزام والإستئذان، نحجر عليه
ونراقبه.
وتؤدي بنا هذه المعاني والحقائق إلى ميزان مهم يجدر بنا
وبناقدينا اللجوء إليه، مفاده: أن كون المسلم من أعضاء جماعة الدعاة إلى
الله لا يحتم علينا أن نمنحه شهادة براءة من البدع والرأي الخاطئ والتأويل
البعيد، وإن كان انتماؤه قرينة على علو همته، وصفاء نيته، وإخلاص قصده، بل
هو دارج على مدارج الفضل، سائر نحو تكميل وعيه وعلمه، وقد يجمع المرء بين
نبل الهدف والجهل، وسمو الغاية والسذاجة، وإنما العلم بالتعلم، وما زال
التتلمذ، وحوار الأقران، واعتكاف المطالعة: وسائل ضرورية لمن أراد الحكمة،
وإنما يمنح السابقون اللاحق الهمام صفة الانتماء ليتاح له تحصيل العلم بهذه
الوسائل، وليعينوه عن قرب، إذ هو في دارهم، وليس الانتماء نهاية سير، ولا
هو دليل على اجتياز المراحل.
. فانظر أخي دمعات الأقلام: تجد خطها
باسما.
. واقرأ: تعصم سيرك من الخطأ، ثم لا تزال باسما..
. وارفق
بمبتدئ يرعاه الدعاة: يفقه، وتكتمل له الأسباب ما دمت له باسما.