مقتطفات من كتاب مصارع العشاق
للدكتور عائض القرني من أحسنت ما قرأت له بعد كتاب لا تحزن
هذه مواقف متعددة سميتها : ( مواقف ساخنة ) ، لأنها
أحداث ، ذات عبر ن وفيها من الحركة والحياة الشيء الكثير ، فهي تحمل
الانفعالات ، والعواطف المتدفقة من جيل لن يتكرر ، إلا أن يشاء الله ،
لعلنا نتوقف عندها ، ونأخذ من كل موقف منها عبراً ودروساً ، تكون زاداً
لنا في طريق الهداية ، فإليكم إياها
الموقف الأول : عمر يجمع الصدقات
[size=16]أتي ( صلى الله عليه وسلم ) والحديث
عند البخاري فأرسل عمر ، وعمر في تلك الفترة وبعد تلك الفترة تلميذ لمحمد (
صلى الله عليه وسلم ) .
أرسله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( اذهب اجمع الصدقات ) . ( أي :
الزكاة ) .
من أين يجمعها ؟ من المسلمين .
أخذ عمر ، رضي الله عنه وأرضاه ، جهته ، وامتثل الأمر ، وطاف على المسلمين :
ادفعوا الصدقة .
لمن الصدقة ؟ أللقصور أللدور ؟ لا ، بل للفقراء ، وللمساكين وللمحتاجين .
وعمر : صارم وهو يصلح لمثل هذه المهمات ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم )
يعرف أن يضع الرجال ، فأبي بن كعب يضعه سيداً للقراء ، ومعاذ قاضياً إماماً
، وأبو بكر أستاذاً في الإدارة ، وأول خليفة ، وحسان للقوافي ، والمجالس
الأدبية ، التي ينافح بها عن الإسلام ، وزيد بن ثابت للفرائض ، وخالد بن
الوليد لفصل الرؤوس عن الأكتاف ، في سبيل الله ، وعلي بن أبي طالب قاضياً
وللمهمات ، والزبير : الحواري ، وعثمان للإنفاق ، وابن عوف للبذل .
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
ذهب عمر يطرق على الأبواب : ادفعوا الزكاة .
يقولون : من أرسلك ؟ فيقول : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا سمعوا
محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) دفعوا الصدقة ؛ لأن عمر مهما أوتي من قوة ،
لا يملك القلوب كما يملكها ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يقول فيه أحد
الشعراء :
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة القلوب
حتى العذارى في الخدر يتبعن كلامه ( صلى الله عليه وسلم ) .
فذهب عمر ليطرق الأبواب ، ومر بالناس جميعاً ، فوصل إلى العباس والعباس :
عم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : ادفع الصدقة .
قال : من أرسلك ؟
قال : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : لن أدفع .
فذهب إلى خالد ، سيف الله المسلول ، أبي سليمان ، صاحب الغارات ، وقال له :
ادفع الصدقة .
قال : من أرسلك ؟
قال : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : لن أدفع ؟
فذهب لبن جميل ، قال : أدفع الصدقة .
قال : من أرسلك .
قال : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : لن أدفع ؟
فرجع عمر بالأموال ، وقال : يا رسول الله ، دفع الناس جميعاً إلا ثلاثة .
قال : ( من هم ؟ )
قال : عمك : العباس وخالد بن الوليد ، وابن جميل .
قال : ( يا عمر، أما تعلم أن العباس عمي ، أما تعلم أن عمر الرجل صنو أبيه ،
هي علي ومثلها لعامين) ( يقول : صدقته علي ومثلها، فأنا اقترضت منه صدقة
عامين ، ولكن استحيا العباس أن يقول لعمر أن الرسول (صلى الله عليه وسلم )
اقترض مني زكاة عامين ، وعلم أنه إذا رد عمر سوف يتذكر الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) .
قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما خالد ، فإنكم تظلمون خالداً ، إنه
قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ) ( عنده مائة سيف وعنده مائة رمح ،
وعنده : مائة فرس ، قال : هي رهن ، وهي محبوسة في سبيل الله ) .
وهل في الوقف صدقة ؟ وهل فيه زكاة ؟ لماذا يا عمر تطلب من خالد أن يزكي وهو
قد وقفها ؟
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد فيها فليتق الله سائله
خالد إذا حضر المعركة ، دعا مائة فارس ، وأعطاهم مائة سيف ، ومائة رمح ،
ومائة فرس ، فهي لله ، ولذلك لا يرثها أبناء خالد .
خالد مات ، ولا يملك إلا ثوبه .
خالد بن الوليد خاض مائة معركة . خالد بن الوليد ما في جسمه شبر إلا وفيه
ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم .
فماذا فعلت أنا وأنت للإسلام ؟ خالد قدم دموعه ودمه ووقته .
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
وما أتت بلدة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
خالد ، يوم اعتزل الجيش ، وهو كبير ، أخذ مصحفاً يقرأ من صلاة الفجر إلى
صلاة الظهر ، ويبكي ، ويقول : شغلني جهادي عن القرآن ، ونقول : يا أبا
سليمان ، عندنا شباب ، شغلهم البلوت عن القرآن ، والمجلة الخليعة ،
والأغنية الماجنة .
يا أبا سليمان ، لقد شغلك الجهاد عن القرآن ، إن جهادك أعظم من قراءة
القرآن ؛ لأنك رفعت لا إله إلا الله بجهادك .
أتته سكرات الموت ، فقال : لقد خضت مائة معركة ، وها أنا أموت على فراشي ،
كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء .
يقول : اليوم يفرح الجبناء أني مت .
يقول ابن كثير : قاتل خالد يوم مؤته ، فكسر تسعة أسياف في يده ، وما ثبت في
يده إلا صحيفة يمانية .
وكان جسيماً بديناً كالحصن ، وقتل بيده يوم مؤته خلقاً كثيراً .
يقول عمر : لما تولى أبو بكر طلبت منه عزل خالد .
فقام أبو بكر غاضباً على المنبر ، وقال : والله لا أغمد سيفاً سله الله على
المشركين .
فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( خالد سيف الله المسلول سله على
المشركين ) (50) .
فلما تولى عمر كان أول ما أصدر : عزل خالد . فقال خالد : والله ما قاتلت
بالأمس لعمر ، وما قاتلت اليوم لعمر ، وإنما قاتلت لله , أنا أقاتل لله
قائداً أو مقوداً .
إذا عذره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( إنكم تظلمون خالداً ) .
وأما ابن جميل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وأما ابن جميل فما ينقم إلا
أن كان فقيراً فأغناه الله ) (51) أي : أنه لا عذر له .
قال الله في ابن جميل وأمثاله ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه َ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكَذِبُونَ) (التوبة:75-77) لا عذر لابن جميل ، أما العباس فمعذور وخالد
معذور .
[/size]
الموقف الثاني : أسامة ولا إله إلا الله
أرسل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جيشاً ، قائده أسامة بن زيد ( وعمره
آنذاك قيل : قبل الرابعة عشر والثالثة عشر ، إلى الخامسة عشر ) إلى الحرقات
من جهينة على البحر الأحمر .
أتدرون من في قيادة أسامة ؟ ومن هم الجيش ؟ أبو بكر الصديق ، وعمر بن
الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلى بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، والقائد
: أسامة عبد مولى ، وكلنا عبيد لله .
وبعض شبابنا اليوم ، عمره : ثلاث عشر سنة ، ولا يعرف شيئاً ؛ لأن من يتربى
على جمع الطوابع ، والمراسلة ، يأتي بعقلية مثل هذه العقلية .
أما أسامة فتربى على لا إله إلا الله ، وتربى على الصلوات الخمس، وعلى قيام
الليل ، وعلى تدبر القرآن .
ذهب أسامة ، وقاد الجيوش ، فوصل إلى هناك في جهينة ، فخرجت جهينة تقاتل
الصحابة ، فخرج رجل من الكفار فأتى للمسلمين ، لا يقصد مسلماً إلا قتله ،
فانطلق إليه أسامة فهرب الرجل من أسامة واختفى وراء شجرة فخرج عليه فلما
رفع السيف لقتله قال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فكأن لسان حال أسامة أن قال : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ
مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ
لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (يونس: 91- 92) فضربه فقتله .
لمن ترفع القضية هذه ؟ قضية شائكة .. إنسان يقاتل ، ثم تذهب إليه فتطارده ،
ثم يقول : لا إله إلا الله ، فتقتله .
رفعت للمصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأتى الصحابة ، فأخبروا الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) فتغير لونه ، واحمر وجهه ، ورعد أمره ( صلى الله عليه
وسلم ) ، فأشرف أسامة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يسلم : ( يا
أسامة ، أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ) ؟.
قال : يا رسول الله إنه قالها مستجيراً بعد أن قتل المسلمين .
قال : ( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟
قال : يا رسول الله قالها مستجيراً .
قال : ( يا أسامة ما تصنع بلا إله إلا الله إذا أتت يوم القيامة ) (52) .
موقف تشيب له الولدان .
فقال أسامة : يا ليتني ما أسلمت إلا هذه الساعة ، أجاهد ، وأقتل مسلماً يا
ليتني ما أسلمت إلا الآن ، يا ليتني ما ذهبت في الجيش .
( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟ تأتى لا إله إلا الله في بطاقة فتنزل
فتدافع عن صاحبها .
لا إله إلا الله ، من أجلها أقيمت الأرض .
لا إله إلا الله ، أثقل كلمة قالها الناس .
لا إله إلا الله : مفتاح الجنة .
( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟
قال : ليتني ما أسلمت إلا الآن .
حنانيك يا أسامة ، وغفر الله ذنبك يا أسامة ، وعطف الله عليك القلوب ، وقد
فعل .
أما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقد توقف ، وما أفتاه ، بل قال : (
ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟ يعني : احتكم أنت وإياه يوم العرض الأكبر .
وفيه دليل على أن لا إله إلا الله محمد رسول الله مفتاح الجنة .
وعلى أنها تنقذ العبد من القتل في الدنيا ، إن لم يترك الصلاة .
وعلى أنها من أحسن الكلمات .
وعلى أنها عظيمة ، دمرت الأرض من أجل لا إله إلا الله خمس مرات .
الموقف الثالث : الصحابة يبحثون عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
يقول أبو هريرة : جلسنا في مجلس ،
ثم بحثنا عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلم نجده .
فهم معه كل أمسية ، فبحثوا عنه ، فلم يجدوه ، فانطلقوا يبحثون .
قالوا : يا أبو هريرة ، أنت عليك بمزرعة فلان ، وعمر هنا ، وأبو بكر هناك ،
وكل في مكان .
أبو هريرة وفق في البحث ، فهو الذي وجده ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجده أين
؟
وجده في مزرعة أحد الأنصار ، أتى إلى الباب ، فسأل ، فقالوا : الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) وسط المزرعة .
تخيل أنت بنفسك أن تذهب إلى مزرعة ، وتفاجأ بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ليس زعيماً ، بل سيد الزعماء ، وليس عالماً ، بل سيد العلماء ، فدخل ،
فقال أبو هريرة : فتحفزت ( أبو هريرة : دعوب ، خفيف الدم ، دوسي ، زهراني ،
من أهل الجبال ) قال : فتحفزت ، وجمعت ثيابي ، ثم دخلت ( وفي بعض
الروايات كما يتخفز الثعلب ) .
فدخل ، فإذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يراه قال : ( من أين أتيت يا
أبا هر ) ؟ ( مداعبة لطيفة ، رواية الإسلام يقول له الرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) : ( يا أبا هر ) لأنه كان له هرة يلعب بها فسماه أهله أبا هريرة )
.
قال : يا رسول الله ، فقدناك فأتينا نلتمسك .
قال : ( يا أبو هريرة عد إلى الناس وأخبرهم أن من شهد أن لا إله إلا الله
وأني رسول الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة ، وهذا حذائي تصدق به ما تقول ) (
يعني : هذا علامة الصدق ) ، فأخذ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الحذاء ،
وأعطاه أبا هريرة (53).
فخرج أبو هريرة فرحاً مسروراً بهذا الخبر العجيب ، ولأنه سوف يكون مبشراً
للناس أجمعين ، ثم تحفز والحذاء معه ، فخرج ، فلما خرج في الطريق لقيه عمر ،
الله أكبر ، عمر واقف أمامه .
قال : من أين أتيت ، يا أبا هريرة ؟
قال : وجدت الرسول ( صلى الله عليه وسلم )في هذه المزرعة ، وقد قال لي أخبر
من لقيته أن من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله مخلصاً من
قلبه دخل الجنة وهذا حذاؤه علامة ذلك .
فأخذه عمر بيده وضربه في صدره .
قال : فخررت على قفاي ( يعني على مؤخرتي ) .
قال : عد إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إني أخشى أن يتكل الناس .
فدخل أبو هريرة بالحذاء ، ودخل على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ووراءه
حصن الإسلام : عمر .
لو كان غير عمر ما عاد ، لكن عمر الذي أخرج عفاريت الجن والشياطين من رؤوس
بعض الناس .
أنا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانياً
فعاد أبو هريرة يبكي عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : ( ما لك ؟ )
.
قال : ضربني عمر ، يا رسول الله .
قال : ( ما له ) ؟
قال : يقول لا أخبر الناس .
وما هي إلا لحظات ، وقد وقف عمر عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما لك ضربته ) ؟
قال : يا رسول الله ، أخشى أن يخبر الناس فيتكلوا ، دعهم يعملوا ، يا رسول
الله .
فتبسم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( دعهم يعملوا ) .
فأقره لأنه ذكي ، فإن لم تكن العبقرية هكذا ، وإلا ما كانت .
وفي هذا الموقف أمور :
أولاً : مكانة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في قلوب الصحابة .
ثانياً : حرص أبي هريرة على الحديث .
ثالثاً : موقف عمر القوي ، والذي جعله يراجع الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
فيصدق فيه قول الشاعر :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد محاسنه بألف شفيع
ولذلك يقول ابن تيمية : موسى لما أخذ الألواح ، فيها كلام الله ، والله
كتبها بيده ، وأتى إلى بني إسرائيل ، غضب على أخيه ، وألقى الألواح ، كما
في سورة الأعراف ، وجر أخاه ، وهو نبي مثله ، ومع ذلك سامحه الله ، بينما
المنافق لا يسمح له بنقطة ؛ لأنه عدو .
ولذلك يقال للأستاذ : إذا علمت الطالب مجداً ، مثابراً ن متقياً ذكياً،
متوقداً، وأخطأ مرة ، فينبغي أن تقول : عفا الله عنك .
لكن طالباً إذا حضر في الفصل نام ، ككيس الفحم ، وإن غاب فشارد ، فلا واجب ،
ولا مذاكرة ، ولا التزام ، فهذا أكثر من التشديد عليه ، فهو الأولى في
معالجته وأمثاله .
الموقف الرابع : وفد عبد القيس
وفد عبد القيس هؤلاء من البحرين ، أتوا إلى المصطفى ( صلى الله عليه وسلم )
، وكانت الوفود إذا أتت إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تضع في
أذهانها ، أنها سوف تتكلم مع رسول الله ونبي الله وصفوة الناس من خلقه ،
فتهيأ ثمانية منهم ( والعجيب أنهم اختلفوا في عددهم قالوا : أربعة عشر ،
أو ثمانية ، أو أربعين ، أورد ذلك ابن حجر ) لبسوا ، وتهيأوا ، ومشوا من
الأحساء حتى وصلوا إلى المدينة ، ونزلوا حول المدينة ، فقال لهم أشج عبد
القيس : انتظروا ، والبسوا ، وتطيبوا ، واغتسلوا ثم أدخلوا على الرسول (
صلى الله عليه وسلم ).
قالوا له : ندخل عليه الآن .
فأتى بقية الوفد ، ومكث أشج عبد القيس وحده ، فدخلوا بغبار السفر ، وشعث
السفر ، وعدم ترتيب السفر .
وأما أشج عبد القيس ، فخرج إلى نخلة هناك ، واغتسل ، ثم لبس ثيابه ، ثم
تعمم ، ثم تطيب ، ثم أخذ عصاه بيده ، ثم أتى ، ودخل المسجد ، والرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) جالس مع الناس والوفد قد سبقه ، فأخذ يلمحه ( صلى الله
عليه وسلم ) خطوة خطَوة ، فتقدم الأشج فجلس .
فالتفت إليهم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( من الوفد ) ؟ الوفود كثيرة ،
والمدينة أصبحت في حالة انتظار للوفود فهو عام الوفود ، وفد يستقبل وفد ،
ويودع وفد ، يأتي وفد ، ويذهب وفود .
قال : ( من الوفد ؟ )
قالوا : ربيعة ( نحن من قبائل ربيعة ) .
قال : ( مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى ) .
ثم التفت إلى أشج عبد القيس ، وقال : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم
والأناة ) .
علم ذلك لأنه أتى بهدوء لابساً متجملاً ، ثم جلس ، ثم سأل سؤال العاقل .
قال : يا رسول الله ، أخلقان جبلني الله عليهما أم تحليت بهما ؟
قال : ( بل جبلك الله عليهما ) .
قال : الحمد لله الذي جبلني على خلق يحبه الله ورسوله .
ثم قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع :
آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله ) ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( شهادة ألا إله إلا الله وأن تقيموا الصلاة وتؤدوا خمس ما غنمتم .
وأنهاكم عن الدباء والنقير ( وفي لفظ المقير ) والمزفت )
ثم قال : ( أخبروا بها من وراءكم ) (54) .
والنقير : هو الجذع الذي ينقر ، ويوضع فيه التمر ، والشعير ، فيصبح خمراً .
والمزفت الجرار الخضر ، تطلى بالزيت ، بالقطران ، ويوضع فيها الشعير ،
والتمر ثم تصبح خمراً .
قالوا : وما أدراك يا رسول الله ؟
فقال : ( بل تنقرون جذوع النخل ، أو جذوع الشجر ، وتضعون فيه التمر ،
والماء ثم يشربه أحكم فربما عدا على ابن أخيه بالسيف وضربه ) .
قال : وفينا رجل عدا على ابن أخيه بالسيف فضربه في رأسه فأخذ هذا الرجل
يخفي الضربة في رأسه بالعمامة .
هذا وفد عبد القيس ، واستقباله في المدينة ، وكانوا من أحسن الوفود .
الموقف الخامس : أبو هريرة يكلم الشيطان
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يجمع الحب ، الذي يجمع من الصدقة ، والتمر ،
والرطب ، يجمعه في جرين ( حوش ) ويجعل له حارساً ، فجعل أبا هريرة يحرس
هذا المال .
قال أبو هريرة : فأتيت أول ليلة أحرس في ظل القمر ، فأتى شيخ كبير (
الشيطان عليه لعنة الله ) ، فأقبل على عصا ، ومعه كيس ، فتكلم مع أبو هريرة
، فقال : أريد من مال الله ، أنا ذو عيال ، وأنا شيخ ( وفي لفظ البخاري
أنه حثا دون استئذان ) فقبضه أبو هريرة ، وقال : والله لأرفعنك إلى الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) .
قال : اتركني ( وشكا العيال وشكا الحاجة ) فأطلقه .
وفي الليلة الثانية أتى ، وأخذ يحثو من التمر ، فقبض عليه ثم تركه .
وفي الليلة الثالثة قال أبو هريرة : والله لأرفعنك إلى الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) .
قال : يا أبو هريرة ، أخبرك بشيء إذا قلته في ليلة لا يقربك الشيطان .
قال : ما هو ؟
قال : آية الكرسي ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
(البقرة: من الآية255) سبحان الله ! فأخذها أبو هريرة ، وذهب إلى الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا رسول الله أتاني رجل كيت وكيت وكيت .
فتبسم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( تدري من تكلم من ثلاث يا أبا هريرة )
.
قال : لا .
قال : ( ذاك الشيطان ، أما إنه صدقك وهو كذوب ) (55).
صدقك مرة ، ولكن كل مرة كذب ، إلا هذه المرة .
وفي الحديث قضايا :
أولها : المسلم لا يأنف من الفائدة ، والحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها أنى
وجدها ، يأخذها من الكافر ، ومن غيره ما دامت فائدة ؛ لأن لشيطان علم أبا
هريرة آية الكرسي ، فما قال : لا آخذها لأنها من الشيطان .
ثانيها : أن الشيطان يتمثل بما يمثله الله فيه .
ثالثها : فضل آية الكرسي ، وأنها تقال عند النوم ، وأن من قالها لا يقربه
شيطان بإذن الله .
الموقف السادس : مناظرة بين الصديق والفاروق
مات ( صلى الله عليه وسلم ) فانقسم الناس إلى مؤمنين صادقين ، وإلى منكرين
للزكاة ، وإلى مرتدين عن الإسلام .
المرتدون بالإجماع يقتلون ، أما تارك الزكاة فاختلف الصحابة فيه ، فقد وقف
أبو بكر على المنبر ، فحلف، وأقسم ليقاتلن تارك الزكاة ، فقام عمر في
المسجد ، وقال : يا أبا بكر ، كيف تقاتل الناس ، وقد سمعنا رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) يقول : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إلا إله إلا
وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم )(56) .
وهذا حوار بعد صلاة الجمعة ، بين لشيخين ، العظيمين ، الجليلين ، بين الشيخ
الأول أبي بكر ، وبين عمر بن الخطاب الفاروق ، والناس ساكتون ، وفي الناس
: علماء ، وشهداء ، وصادقون ، وبررة ، فسكتوا .
أبو بكر يقول نقاتلهم .
وعمر ، يحتج عليه في الحديث ، ويقول : هم يشهدون أن لا إله إلا الله .
فرفع أبو بكر صوته ، وقال : والله ، الذي لا إله إلا هو ، لأقاتلن من فرق
بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والذي نفسي بيده لو منعوني
عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقاتلتهم عليه
بالسيف .
فأجمع الصحابة مع أبي بكر .
قال عمر : فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم سكت .
أبو بكر مصدق ، أبو بكر رجل ملهم يلهمه الله ، أبو بكر أفضل من جميع
الجالسين في المسجد ، هو في كفة وهم في كفة .
قال ابن حجر : لماذا لم يستدل أبو بكر على عمر بحديث في الصحيحين ) عن ابن
عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أمرت أن أقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على
الله ) (57) أليس هذا دليل صريح ؟
فلا الشيخ أبو بكر تذكره ولا الشيخ عمره تذكره .
والجواب : أن يقال نسي أبو بكر الحديث، نسي عمر، ولا يلزم في المجتهد أن
يحفظ كل دليل في المسألة .
والجواب الثاني : قالوا : لا ، ما نسيا لكن ، ما سمعا بالحديث من أصله ،
فهو من رواية ابن عمر ، فلا سمع به أبو بكر ولا عمر ، وإنما سمع به ابن عمر
.
ولكن ، لماذا لم يتكلم ابن عمر ، وهو حاضر في المسجد ؟.
الجواب : قيل : يمكن أنه كان يتذكر لكن استحيا من تلاطم البحران في المسجد ،
فأبو بكر : صديق الإسلام ، وعمر : فاروق الإسلام ، فهل يتدخل بينهما ؟
وقيل : يمكن أنه نسي ، حتى هو ، وما رواه إلا فيما بعد ، فالله أعلم .
إنما وقعت هذه المسالة وكان الحق مع أبي بكر ، وهو مصدق بهذا الحديث .
فقاتل المتمردين .
وفي الحديث أمور :
أولها : جلالة أبي بكر الصديق .
الأمر الثاني : أن المجتهد قد يخفى عليه بعض الأمور ، ولا يلزم من العالم
أن يحفظ كل جزئية .
الأمر الثالث : أن الحكم شورى ، ومن عنده كلمة ، أو دليل فليتحدث به .
الأمر الرابع : أن القياس يؤخذ به إذا خفي النص ، وقد أخذ به أبو بكر .
الأمر الخامس : أن الله شرح صدر أبي بكر لقتال المرتدين .
الموقف السابع : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعاتب أبا ذر
اجتمع الصحابة في مجلس ، لك يكن معهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجلس
خالد بن الوليد ، وجلس ابن عوف ، وجلس بلال ، وجلس أبو ذر ، وكان أبو ذر
فيه حدة وحرارة .
فتكلم الناس في موضوع ما ، فتكلم أبو ذر بكلمة اقتراح : أنا أقترح في الجيش
أن يفعل به كذا وكذا .
قال بلال : لا هذا الاقتراح خطأ .
فقال أبو ذر : حتى أنت يا ابن السوداء تخطئني .
لا إله إلا الله ! أين أنت ؟
فقام بلال مدهوشاً ، مرعوباً ، غضبان أسفاً ، وقال : والله لأرفعنك إلى
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (أكبر هيئة ) فاندفع بلال ماضياً إلى الرسول
( صلى الله عليه وسلم ) .
ومن هو بلال ؟ إنه روح الإسلام منادي السماء .
فاستفاقت على أذان جديد ملؤ آذانها أذان بلال
بلال : الصوت الحبيب إلى القلوب .
بلال : الذي سحب على الرمل ، وهو يقول أحد .. أحد .
وصل للرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وقال : يا رسول الله ، أما سمعت أبا ذر
ماذا يقول في ؟
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ماذا يقول فيك ؟ )
قال : يقول كيت وكيت وكيت .
فتغير وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأتى أبو ذر ، وقد سمع بالخبر ،
فاندفع مسرعاً إلى المسجد فقال : يا رسول الله ، السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته .
فغضب ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قيل : ما ندري أرد أم لا ؟
قال : ( يا أبا ذر أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية ) (58) .
هذه الكلمة ، كأنها صاعقة على أبي ذر .
فبكى أبو ذر ، وأتى إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجلس ، وقال : يا
رسول الله ، استغفر لي ، سل الله لي المغفرة .
ثم خرج أبو ذر من المسجد باكياً .
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمو ألم
ذهب ، فطرح رأسه في طريق بلال ، وأقبل بلال ، العبد ، الذي ما كانت تقيم له
الجاهلية قيمة بالتميز العنصري ، الذي سحقه الإسلام .
يقول عمر : أبو بكر سيدنا ، وأعتق سيدنا أي : بلالاً .
أتى أبو ذر فطرح خده على التراب ، وقال : والله يا بلال لا أرفع خذي عن
التراب حتى تطأه برجلك ، أنت الكريم وأنا المهان .
رفع الله منزلتك يا أبا ذر إلى هذا الحد .
إنه تأديب الإسلام ، وحياة القرآن ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(لأنفال:63) .
فأخذ بلال يبكي من هذا الموقف ، من الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف ، ولا
ينقطع قلبه ؟
إن بعضنا يسيء للبعض في اليوم عشرات المرات ، فلا يقول عفواً ، يا أخي ، أو
سامحنا .
إن بعضنا يجرح بعضاً جرحاً عظيماً ن في عقيدته ، ومبادئه ، وأغلى شيء في
حياته ولا يقول: سامحني .
إن البعض قد يتعدى بيده على زميله ، وأخيه ، ولا يقول : عفواً ، يا أخي .
قال : والله لا أرفع خدي ، حتى تطأه بقدمك ، فبكى بلال ، واقترب ، وقبل ذاك
الخد لا يصلح للقدم بل يصلح للقبلة .
ذاك الخد ، أكرم عند الله ، من أن يضع عليه القدم ؟
ثم قاما وتعانقا ونباكيا .
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
هذه هي حياتهم ، يوم تعاملوا مع الإسلام .
( أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية ) فليس عندنا معامل ألوان ، ولا عندنا
أبيض ، ولا أحمر ، ولا أسود ، ولا من آل فلان ، أو من آل فلان .. لا
عندنا تقوى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:
من الآية13) ، لذلك إذا رأيت إنساناً يمتدح بآبائه وأجداده وهو صفر فاعرف
أنه لا قيمة له عند الله .
إذا فخرت بآبائهم لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا
طرق طارق على عمر ، قال : من ؟
قال : أنا الكريم ابن الكريم ابن الكريم .
تدرون من هو هذا الرجل ؟ إنه عيينة بن حصن بن بدر ، وهو : صادق ، فأسرة بنو
بدر ، هؤلاء أسرة من أربع أسر ، من أكبر أسر العرب ، فحاتم الطائي على
كرمه كان يمدحهم ويقول : هم أكرم مني .
يقول حاتم لامرأته لما تغاضبا :
إن كنت كارهة معيشتنا هذا فحلي من بني بدر
الضاربون في كل معترك والطاعنون وخيلهم تجري
فأسرة بني بدر من أعظم الأسر .
فقال عمر : بل أنت الأخس ، ابن الأخس ، ابن الأخس الكريم ابن الكريم ابن
الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
وفي موقف أبي ذر ، وبلال دروس :
منها : الإعتذار من الأخ إذا سألت إليه بالهدية ، والبسمة الحانية ،
والمعانقة ، وألا تحمل ضغينة على أخيك .
فأنا وإياكم نشجب كل هذا العداء ، والبغضاء بين الأحبة ، والتفلت على أوامر
الله ، والضغينة من أجل أمور نسبية ، يختلف فيها الناس ، وقد تختلف فيها
وجهات النظر .
ألا إن من يفعل ذلك ، أو يحمل على أخيه المسلم ، فقد أساء وظلم .
ومنها : أن الفضل في الإسلام للتقوى ، لا للون ، ولا للحسب والنسب .