لمُسَــاهَمَـــاتْ : 5481 العمر : 30 مزاج : تاريخ التسجيل : 18/01/2008
Subject: مواقف من حياة الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله Sun 11 Apr أƒ 20:48
مواقف من حياة الإمام عبدالعزيز بن باز - بقلم تلميذه الشيخ محمد بن لقمان السلفي بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فقد زار دولة قطر –حرسها الله- قبل حوالي أسبوعين فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن لقمان السلفي حفظه الله ألقى خلال زيارته بعض الدروس وزار بعض الأخوة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وغيرها، وقد قدّر الله أن ألتقي بفضيلة الشيخ مرتين في جهة عملي إحداهما في مكتبي بتاريخ 16\5\1430هـ ، وقد رأيت الشيخ غاية في التواضع، دمث الخلق وكان يخبرنا كثيراً ببعض مواقفه مع الإمام عبدالعزيز بن باز.
وقد أهداني الشيخ حفظه الله أحد كتبه القيّمة وترك على مكتبي مقالة كتبها عن شيخه الإمام عبدالعزيز بن باز فيها ذكر لشيء من سيرته وسيرة الشيخ ابن باز وبعض المواقف الخاصة بينهما، وقد كتبها الشيخ محمد بن لقمان السلفي في عام 1423هـ بعد وفاة الشيخ ابن باز.
وقد رأيت أن أنشر هذه المقالة خاصة أن لم أجدها قد نشرت سابقاً في الإنترنت وفيها بعض الفوائد من سيرة الشيخ ابن باز رحمه الله.
أبدأ أولاً بذكر شيء عن كاتب المقالة :
هو الشيخ الدكتور محمد بن لقمان السلفي، أحد ملازمي الشيخ ابن باز رحمه الله، درس الشيخ في الجامعة الإسلامية قادماً من الهند في أيام رئاسة الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وقد لازم الشيخ ابن باز منذ عام 1382هـ حتى وفاة الشيخ.
كان الشيخ محمد بن لقمان السلفي يعمل سكرتيراً خاصاً للإمام ابن باز لشؤون الترجمة في الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد.
يشغل الشيخ محمد بن لقمان السلفي حالياً منصب كبير الباحثين بمكتب سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ حفظه الله ، كما يشغل منصب مدير جامعة ابن تيمية في ولاية بيهار بالهند، علماً بأن الشيخ يحمل الجنسية السعودية وهو من أصل هندي.
وهذا نص المقالة.
إن صبيحة يوم الخميس الموافق 27\1\1420هـ التي حملت إلي نبأ وفاة شيخي رحمه الله كانت صبحاً كنت أخاف من مجيئه كلما كنت أرى صحته متدهورة، لأني كنت أظن –وكان ظني صادقاً- أنه سيكون له وقع شديد على قلبي ودماغي. فقد اشتغلت بعد صلاة الفجر في ذلك اليوم في بحوثي حسب العادة إلى الساعة السابعة والنصف، ثم عدت إلى فراشي منهكاً مرهقاً لأستريح قليلاً وآخذ قسطاً من الراحة قبل أن أعود إلى بحوثي مرة أخرى. وما إن غلبني النوم حتى سمعت رنين الهاتف يوقظني، ويمتد يدي إليه متوقعاً أنه مكالمة من الأخوة في جامعة ابن تيمية بالهند حسب عادتهم أنهم غالباً يتصلون بي صباح الخميس لأخذ رأيي في بعض الأمور المتعلقة بالجامعة. ولكنها لم تكن كما ظننت، بل كان صوت أخي في الله الدكتور عبدالوهاب خليل من مكة المكرمة، ولم تكن نبرات الصوت عادية ولم يكن الحديث واضحاً، وكأنه يريد أن يلقي في ذهني أن الخبر غير عادي وأن النبأ عظيم، وأنه يجب علي أن أستعد لسماعه وتحمله.
وإذا به يخبرني عن فاجعة كبرى، ألا وهي موت شيخي ومرشدي إمام أهل السنة في هذا العصر عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
أعدت سماعة الهاتف إلى مكانها وقلت "إنا لله وإنا إليه راجعون" ...
وأخبرت أهلي بالخبر الذي كنت أخاف من سماعه، وجلست في مكاني ساكتاً واجماً وغلبني البكاء، بكاء الطفل الذي يفقد أبويه، وانهمرت الدموع التي لا تريد أن تنقطع، واللسان يلهج بالدعاء والترحم لفقيد الأمة الإسلامية. ولم أعد إلى طوري المعتاد واعتدالي المعهود إلا بعد أكثر من ساعة.
والله يعلم أنه لم يطرأ عليّ مثل هذا الوجوم في حياتي قبل هذا اليوم، وذلك من شدة هول الخبر الذي لم أكن مستعداً لسماعه.
ولكني تذكرت قول الله تعالى-وقوله حق- مخاطباً نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم (إنك ميت وأنهم ميتون) وتذكرت قوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، إفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)
وتذكرت قول أبي بكر الصديق عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت) فهدأ الجأش وخفّ الاضطراب وعدت إلى طوري نوعاً ما، وأخذت أستعد للعودة إلى الطائف حيث توفى شيخي.
وقد كنت جئت إلى مدينة الرياض مساء الأربعاء لزيارة أهلي وأولادي. فسافرت في رحلة الساعة الثانية والنصف إلى الطائف كما سافر جميع زملائي الذين كانوا جاؤوا مثلي إلى الرياض ليومي الخميس والجمعة.
وصلتُ إلى مدينة الطائف والخزن غالب عليّ وعلى زملائي وعلى كل من لقيته، بل على الجو والهواء وعلى الطقس والفضاء، وصلتُ إلى منزل شيخي فوجدته مزدحماً شديد الازدحام لا يجد القادم متنفساً، وعزّيت نفسي وزملائي وأبناء شيخي وتلاميذه ومحبيه والمشايخ والعلماء والدعاة الذين كانوا تدفقوا من كل أنحاء المملكة.
وفي صباح يوم الجمعة الموافق 28\1\1420هـ سافرتُ، كما سافر الآخرون إلى مكة المكرمة للصلاة على الفقيد في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة، فوجدت المدينة تحولت إلى مدينة مكتظة بالقادمين إليها من داخل المملكة وخارجها، وقد بلغني فيما بعد أن المطاعم ومحطات البنزين أصبحتا فارغتين من محتواهما لكثرة الواردين إليهما. واكتظَ المسجد الحرام بالمصلين كأنه في ليلة السابع والعشرين من رمضان أو أكثر.
وألقى فضيلة الشيخ محمد السبيل خطبته وذكَر المسلمين بوفاة النبي ووطأته على الصحابة الكرام ثم صبرهم على ذلك الخبر المحزن، ودعا المصلين إلى الصبر والسلوان،
وقال: إن فقيدنا رحمه الله هو إمام أهل السنة في هذا العصر، وإنه المحدث العظيم وعلامة دهره وفقيه عصره قلّما يجود الزمان بمثله، نذر حياته منذ شبابه لخدمة هذا الدين وأهله. وما إن سمع المستمعون أوصاف فقيدنا هذه، حتى أجهشوا بالبكاء وارتفعت أصوات بكائهم في أنحاء المسجد. فلما انتهى فضيلته من صلاة الجمعة تدفق الناس إلى جنازة شيخي تدفقاً، لولا فضل الله ورحمته لوقع كثير من الناس صرعى.
وبعد صلاة الجنازة حمل نعشه فأخذ يسج على رؤوس الناس من كثرة من يريد أن يحمله.
وقد قدّر عدد الذين صلوا عليه أكثر من مليوني شخص. وهذا عدد لم ير له مثيل في هذا العصر.
ثم وري جثمانه في مقبرة العدل بمكة المكرمة. فرحم الله شيخي ومرشدي رحمة الأبرار وأعلى مقامه بين الصديقين والشهداء والصالحين، ورحمني معهم وجمعني بهم في الفردوس الأعلى إنه سميع قريب.
وفاته رحمه الله هزّت العالم الإسلامي بأسره:
لقد انتشر خبر وفاته رحمه الله في العالم كله خلال ثلاث ساعات فقط، واهتز المسلمون شديد الإهتزاز. لم أسمع مثله ولم أقرأ في كتب التاريخ الاسلامي أنه وقع مثل هذا عند وفاة أحد من العلماء والمصلحين. فقد تلقيت عشرات المكالمات الهاتفية من محبي الفقيد وتلاميذه الذين درسوا عليه في الجامعة الإسلامية المنتشرين في دول أوروبا وأمريكا وآسيا، بعضهم يعزيني في وفاته، وبعضهم يريد أن يتأكد من صحة الخبر. ومنهم الأخ الأستاذ رفيق المقيم في كندا، فقد اتصل بي وأنا في طريقي من المطار إلى مدينة الطائف،
وقال لي: إن الناس هنا في هرج ومرج واضطراب شديد، لا يكادون أن يصدقوا هذا الخبر، وأنا لا أكاد أصدقه، فهل فعلاً مات شيخ الكل في الكل، هل مات إمام أهل السنة في هذا العصر، هل توفى أمير السلفيين في العالم؟؟ ثم أجهش بالبكاء.
صلاة الغائب على الفقيد في جميع أنحاء العالم:
وقد صلى عليه المسلمون صلاة الغائب في جميع أنحاء العالم. وأخص بالذكر أهل الحديث في شبه القارة الهندية الباكستانية، فإنهم كانوا يعتبرونه حقاً إمامهم وأميرهم، وكانوا يرجعون إليه في كثير من أمورهم، وكانوا يحبونه حباً لا أظن أن أحداً في البلاد العربية استطاع أن يعرف مداه. ولذا أعلنت جماعة أهل الحديث الهندية والباكستانية، وأعلن الداعية الكبير الشيخ مختار أحمد الندوي السلفي عن إقامة صلاة الغائب عليه رحمه الله في كل مسجد جامع تابع للجماعة، وأعلنوا في جرائدهم ومجلاتهم أنه مات اليوم إمام السلفيين في هذا العصر، ودخل الحزن في كل بيت من بيوت أهل الحديث.
قد بلغني أن عشرات من المجلات السلفية في الهند ونيبال وباكستان تستعد الآن لنشر أعداد خاصة عن مآثر الفقيد وجهاده لرفع راية الإسلام وإرساخ دعائم المنهج المؤسس على كتاب الله وسنة رسوله في أنحاء العالم.
رؤيتي الأولى لسماحته:
لقد رأيت سماحته في المرة الأولى عند قدومي إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في شهر رمضان من سنة 1382هـ وهو نائب رئيس الجامعة إذ ذاك. وأنا طالب صغير، بل أصغر طلاب الهند سناً في الجامعة. وكان ديدن سماحته أنه كان يدعو كل طالب جديد في مكتبه يرحب به طالباً في الجامعة ويشجعه ويسعى لإزالة أثر الغربة وفراق ذويه عن دماغه. فوجدته طويل القامة ظاهراً بين مرافقيه، هادئاً متواضعاً بشوشاً يحظى بأدب جم واحترام ملؤه الحب والتقدير ممن حوله من العلماء والمدرسين والموظفين وغيرهم.
وأخذت أسمع من فطاحل العلماء الذين كانوا يدرسون آنذاك في الجامعة عن غزارة علم شيخي وبلوغه درجة الاجتهاد وعدم تقيده بمذهب فقهي معين وانتهاجه منهج المحدثين واستقائه من ينابيع القرآن والسنة كما استقى منه المحدثون الأوائل.
فأخذ من قلبي مأخذ واشتدت رغبتي في الاستماع إلى أحاديثه ومحاضراته ودروسه، لأني سلفي بن سلفي بن سلفي، وتربيت في صغري بين يدي علماء أهل الحديث، وجدي رحمه الله قضى ثماني عشرة سنة من شبابه في صفوف المجاهدين لإقامة الدولة الإسلامية في شبه القارة الهندية، ولم يرجع إلى بلده إلا عندما توقف الجهاد الإسلامي. وهكذا أخذ يزداد تعلقي به رحمه الله.
وقد ألقى في تلك الأيام شيخي العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني محاضرة علمية على طريقة المحدثين، واستمع الحضور إليها استماع التلاميذ إلى درس شيخهم، وهابوا لمكانته واعترفوا له بعلو الكعب في مجال علم الحديث روايةً ودرايةً. وكنت أظن أن لا أحد يجرؤ على الحديث بعد حديثه، وإذا بشيخي-رحمه الله- قام من مكانه وعلّق على محاضرة العلامة المحدث تعليقاً علمياً دقيقاً، وأبدى ملاحظات حديثية، كلها كان يتعلق بعلوم الحديث سنداً ومتناً.
ثم قام المحدث ناصر الدين الألباني وشكر الشيخ رحمه الله واعترف له بغزارة العلم. فكانت هذه الواقعة بمثابة دليل قاطع على علو كعب شيخي وبروزه من بين معاصريه في علوم الكتاب والسنة. وهكذا ارتسخ في ذهني علو مكانته وأنه الشيخ الذي يجب أن يحتذى.
اهتمامه بطلاب الجامعة خاصة وبالشباب الإسلامي عامة : كان رحمه الله شديد العناية بالطلاب الذين يأتون إلى الجامعة للدراسة، وكان يقرّبهم من نفسه ويطلب منهم الجلوس بجانبه، ويسألهم أحوالهم في محيط الجامعة ويطمئن على سير دراستهم وصحتهم وراحتهم في المسكن، ويحل المش بينهم إن وجدت، ويغتنم كل فرصة للحديث إليهم ينصحهم بالاجتهاد في الدراسة والاخلاص في النية والعمل بما يتعلمون.
وهكذا يسعى جاهداً ليل نهار أن يربيهم على الخير ويسلحهم بالإيمان والغيرة لدينهم والاستعداد للقيام بالدعوة إلى الله إذا رجعوا إلى بلادهم.
وكان هذا ديدنه مع الشباب الإسلامي بصفة عامة، فقد كان يهتم بهم أكثر ويستمع إليهم ويشجعهم على التزود بالعلم الشرعي والتقوى في السر والعلن والعمل بدينهم والإخلاص له أينما حلوا وارتحلوا. وكان –رحمه الله- يتأسى بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إذ كان يهتم بصغار الصحابة أكثر، لأنهم هم أمل الأمة في المستقبل، أمثال أسامة بن زيد وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمر ومعاذ بن جبل وجابر بن عبدالله، وغيرهم كثيرون لا يسع المقام لذكرهم.
وهذا بين واضح لكل من عمل تحت إشرافه، فألوف الرسائل الواردة من أبناء وبنات المسلمين في الدول العربية وغير العربية إلى سماحته وانتهاجهم منهجه، وعنايته –رحمه الله- بهم وبطلباتهم لدليل قاطع على ما ذكرت. وقد كان لهذا كله أثر عظيم على مستوى العالم. فإن المتتبع لأخبار الشباب الإسلامي في العالم يعلم أن ملايين الشباب المسلمين الآن يدعون بدعوة الفقيد ويفتخرون بالإنتماء إليه. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ولا أرى بأساً أن أذكر –تحدثاً بنعمة الله- أني أحد أولئك الذين يعتزون بالإنتماء إليه، وقد بايعته –رحمه الله- فيما يراه النائم، وعرضت رؤياي على سماحته فبشرني بالخير، وقد عبرت تلك الرؤيا بنفسي بأني سأقوم بعمل دعوي امتداداً لدعوة شيخي. وقد ظهر تعبيرها في صورة جامعة ابن تيمية وجمعية شيخ الإسلام ابن تيمية التعليمية الخيرية ومركز العلامة عبدالعزيز بن باز للدراسات الإسلامية في الهند. وقد درست عليه العقيدة الطحاوية في الجامعة وحضرت دروسه ولم أزل استقي من منهله الصافي المستمد من الكتاب والسنة حتى لقي ربه.
لم تنقطع صلتي به بعد تخرجي وسفري إلى مدينة الرياض سافرت إلى مدينة الرياض بعد تخرجي من كلية الشريعة بالجامعة للبحث عن عمل في مجال التدريس، ولكن الله أراد لي خيراً مما أردت، فحصلت على وظيفة المترجم الانجليزي في إدارة الدعوة بالخارج بدار الإفتاء.
وكان رحمه الله يأتي إلى مدينة الرياض في كل صيف وفي كل رمضان تحقيقاً لرغبة محبيه في هذه المدينة. فكنت في رمضان أصلي التراويح خلفه في المسجد الجامع الكبيرة بالديرة، وكنت آتي إليه متجاوزاً عدداً من المساجد لأصلي خلفه، وهو لا يراني، ولكنه الحب في الله والرغبة الشديدة الجانحة في القرب منه والاستفادة من أقواله وأفعاله وخطواته. وكنت أتابع أخباره حتى أعلم موعد مجيئه إلى الرياض، وكنت أقرأ له فتح الباري وأناقشه في بعض المسائل الحديثية والفقهية والقواعد النحوية، فلا يغضب ولا يتضايق بل يفرح وتبدو الابتسامة على نواجذه رحمه الله.
كنت أحاول ألا تفوتني مجالسه في منزله مدة إقامته في الرياض. وقد كنت همزة وصل بينه وبين كثير من العلماء البارزين الذين كانوا يأتون من شبه القارة الهندية الباكستانية لزيارة المملكة. وقد استمر بي هذا الحال حتى انتقل إلى رحمه الله.
كريم أخلاقه وعظيم تواضعه
ومن الوقائع التي تدل على كريم أخلاقه وعظيم تواضعه، أنه دعا العالم الهندي الشيخ فضل الله الجيلاني شارح الأدب المفرد للبخاري إلى مأدبة الغداء، فلما جلس الشيخ وضيوفه حول المائدة، سأل عما إذا كان حضر الخادم اليماني الذي كان يغسل الأواني في منزله ليأكل معه، فقيل له أنه لم يحضر بعد، فبدأ يناديه، ولم يشرع في الأكل حتى تأكد من حضوره واشتراكه معه وضيوفه في المأدبة.
وقد سألني الشيخ فضل الله الجيلاني عمن يكون ذلك الولد، هل هو ابن الشيخ؟ فأخبرته بأنه خادم من اليمن يغسل الأواني في منزل الشيخ. فكاد أن لا يصدقني وبدأ يبكي ويقول: إن هذا التواضع العظيم والرحمة بالضعيف لم أر له مثيلاً في حياتي ولم أقرأ عنه في تاريخ حياة الصحابة والتابعين.
كان رحمه الله شديد الحب للنبي صلى الله عليه وسلم كانت نبرات صوته تتغير، وتهتز رأسه كلما جاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان شديد الحب للسنة النبوية لا يريد منها بدلاً، ولحبه للسنة كان شديد الحب لإمام السنة أحمد بن حنبل وأمير المؤمنين في الحديث محمد بن اسماعيل البخاري والإمام مسلم بن الحجاج وغيرهم من أئمة الحديث في القرون الأولى والمتأخرة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله.
وكان يقول عنه تلاميذه : إن شيخنا يحفظ فتح الباري (غير مرتب) وإنه إذا قال عن حديث: لا أعلم، فهو مجهول الهوية غالباً، كما قيل عن شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : "الحديث الذي لا يعلمه ابن تيمية فهو ليس بحديث".
شهرته بالإهتمام بالمسلمين في العالم كله
وقد اشتهر الشيخ –رحمه الله- بالاهتمام بأمور المسلمين في العالم كله، منذ أن كان شاباً، فقد قرأت كتاباً للعالم الهندي الشهير الأستاذ مسعود عالم الندوي باللغة الأردية، عنوانه "رحلتي إلى البلاد العربية" وقد حصلت عليه في المكتبة السعودية أول مقدمي إلى الرياض، فقرأت فيه عن الأستاذ مسعود (وكان من أهل الحديث السلفيين)،
عندما وصل إلى المدينة المنورة قادماً من بلاد الشام أراد أن يسافر إلى مدينة الرياض لزيارة الشيخ رحمه الله، وهذا في الأربعينيات من التاريخ الميلادي، ولذلك لشهرته بين علماء الهند وباكستان بعلمه الغزير وسلفيته وتحرره من ضيق التقليد الجامد إلى سعة الكتاب والسنة.
ولعل هذا أهم الأسباب التي دعت شيخه سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ –رحمه الله- ليعينه نائباً في رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لأنها أسست لتستقبل الطلاب من العالم كله، فكان هو الشخص المناسب ليشغل هذه الوظيفة العالمية.
العالم الرباني الذي اصبح اسمه رمزاً للغيرة على الإسلام وقد صدق ظن شيخه فيه، كما ذكرت فيما مضى اهتمامه بطلاب الجامعة والشباب الإسلامي في العالم كله.
وقد شاهد الناس أنه وقف حياته لخدمة الإسلام والإهتمام بشؤون المسلمين، فقد تحول مكتبه مدة وجوده في الجامعة إلى مجموعة مكاتب: مكتب الدعوة إلى الله في الداخل والخارج، مكتب الجهاد الإسلامي في العالم، مكتب الرد على الملاحدة وأعداء الإسلام، والرد على ما ينشر في الجرائد والمجلات ضد الإسلام والمسلمين، ودعوة الملوك ورؤساء المسلمين إلى تطبيق الإسلام، ودعوة بعضهم إلى التوبة النصوح مما بدر منه من الكفر بالله أو الاستخفاف بالشريعة الإسلامية أو القرآن والسنة، ومكتب الفتيا، ومكتب الشفاعات، ومكتب المساعداتن ومكتب فتوى الطلاق، إلى آخرها.
وهكذا أصبحت كلمات (ابن باز) رمزاً للغيرة على الإسلام وللإهتمام بالمسلمين أينما وجدوا على وجه البسيطة. اشتهر هذا الاسم في مجاهل أفريقيا، ودول أوروبا وأمريكا وأستراليا، ومدن آسيا. كل علم أنه العالم الرباني الذي أصبح مرجع المسلمين في شؤونهم وشجونهم وهمومهم وأفراحهم. أصبح هذا الاسم شعاراً لحب الخير للإسلام والمسلمين.
انتقاله إلى الرياض رئيساً عاماً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
وفي عام 1395هـ عيّن رئيساً عاماً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ونقل إلى مدينة الرياض، وهو متربع على كرسي الشهرة العالمية، وحال تسلمه العلم في الرئاسة طلبني للعمل مسؤولاً عن قسم الترجمة في مكتبه، وكان الزمن زمن تدفق العمال الأجانب إلى المملكة، وقد نشط الدعاة لدعوتهم إلى الإسلام، فأصبح العمال يدخلون في الإسلام أفواجاً وأسراباً، وأخذوا يأتون إلى سماحته لإعلان إسلامهم. وكان شيخي يشرح لهم أركان الإيمان والإسلام ومزايا الدين الإسلامي، وأنا أترجم.
كما أن الوفود من الخارج أخذت تتكاثر لزيارة سماحته وعرض احتياجاتها عليه لمضاعفة جهودها في سبيل الدعوة إلى الله، وأنا أقوم بالترجمة الفورية بين الشيخ وبين تلك الوفود.
وازدهرت الدعوة الإسلامية بين القادمين من الخارج من جميع الفئات.
وبالإضافة إلى هذان ترجمت لسماحته في كثير من المحافل الدعوة بمكة ومنى والطائف والرياض، وكنت أشعر باعتزاز وفخر إذ كنت أترجم لأشهر داعية إسلامي في هذا العصر. والحمد لله على فضله وكرمه.
ولا يفوتني من الذكر أن الشيخ عندما كان يشرح عقيدة لا إله إلا الله ومحمد رسول الله ويبين مزايا الإسلام ويفصّل أركان الإيمان وأركان الإسلام، كان اليقين يترشح من كلماته، وقوة الإيمان تتدفق من لسانه كأنه الجبل الأشم في إيمانه وعقيدته.
وقد استفدت منه رحمه الله الشرح المبسط لأركان الإيمان والإسلام ومعنى كلمة لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، وأدركت معنى حب النبي صلى الله عليه وسلم إدراكاً صحيحاً، ووقر في سويداء قلبي حب الرسول صلى الله عليه وسلم. فجزاه الله عني كل خير.
ولا أزال أذكر قصة ذلك الرجل الأوروبي الذي جاء إلى الشيخ، ووجه إليه أسئلة دلت على أنه شاك في صدق الإسلام، فقال لي سماحته: قل له يا محمد، إن الإسلام دين حق، وإنه نور ساطع لا يغمض عنه عينيه إلا الخفاش، فادخل في الإسلام أيها الرجل، قبل أن يفاجئك الموت، لتنجو من النار، فترجمت له، فقام وذهب ووعد سماحته بأنه سيقرأ عن الإسلام اكثر، ثم يأتي إليه ليدخل في حظيرة الإسلام.
من للجامعات والجمعيات الإسلامية في العالم.
ذكرت فيما مضى أن شيخنا اشتهر اهتمامه بالمسلمين في جميع بقاع الأرض، كل جمعية إسلامية تعمل تحت أديم السماء لنشر العقيدة الصحيحة ولدعوة الناس إلى الدين الخالص هي جمعيته، وكل جامعة تفتح على وجه البسيطة لتعليم الأجيال الإسلامية دينها وعقيدتها، هل جامعته.
لذا المسلمون من كل أنحاء الأرض كانوا يتوافدون إليه، وشيخنا يوصي بهم الحكام والأمراء والتجار خيراً، ويطلب لهم المساعدات المالية وهكذا استطاع –رحمة الله عليه- أن يرعى مئات الجامعات والجمعيات والمدارس الإسلامية في العالم. وكذلك إذا علم بحاجة منطقة إلى جامعة أو مدرسة إسلامية ووجد فيها أحداً من تلاميذه أو الدعاة الذين كان يثق فيهم، أمره بالقيام بهذه المهمة ووعده بالتعاون والمساعدة المادية والمعنوية.
جامعة ابن تيمية بالهند
ومن تلك الجامعات (جامعة ابن تيمية) بمدينة السلام في ولاية بيهار بشمال شرقي الهند. فقد كتب إليه بعض مشايخ أهل الحديث من المنطقة المذكورة، أن المنطقة بحاجة ماسة إلى جامعة سلفية، وأن تلميذكم محمد لقمان يستطيع القيام بهذه المهمة، فاستدعاني واشار علي بل أمرني بها. وهذا قبل أربع عشرة سنة من الآن أعني في سنة 1409هـ. وقد وافق على تسميتها بجامعة ابن تيمية تيمناً باسم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله. وقد ساعدني وشجعني وكتب إلى الأمراء والتجار وأهل الخير للتبرع لمشاريعها حتى أصبحت الآن من أشهر الجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية.
وقد فتحت إحياءاً لاسمه الميمون مركزاً للدراسات الإسلامية في الجامعة، وسميته باسمه، ووافق على التسمية، إذ قال عندما عرض عليه طبي: " الأمر فيه سعة" وهو مركز يعنى بإعداد الكتب الدعوة في عدة لغات حية بواسطة باحثين متفرغين يعملون فيه. وأنا فخور بأن شيخي كان راضياً بعملي هذا، وكان يشجعني بشتى الوسائل. كما أنا فخور بأني تلميذه الوحيد الذي أحيى ذكره بفتح مركز علمي يندر مثله. وقد بدأت في طباعة الكتب المعدة في المركز المذكور بمدينة الرياض بالتعاون مع دار الداعي للنشر والتوزيع. والحمد لله الذي بفضله وكرمه تتم الصالحات.
ولائي وولاء أهلي وأولادي للشيخ
لقد انتقل شيخي إلى الرفيق الأعلى، ولا أظن أن أحداً يتهمني الآن بالرياء والظهور أو بالأطماع الدنيوية، إلا الحاسد وهذا أسأل الله له الشفاء. فأقول : إني أحببت شيخي ومرشدي حباً في الله ولله، لا يشوبه غرض دنيوي. ويبدو لي أن الرؤيا التي رأيتها قبل سنتين، وهي أني بايعته مع مجموعة من تلاميذه الذين بايعوه، كانت نتيجة هذا الحب الذي تغلغل في سويداء قلبي منذ الصغر.
وقد كان دأبي أني إذا رأيت شيخي يعمل عملاً صالحاً (قولاً أو فعلاً) ذكرته لأهلي وأولادي على مائدة الغداء والعشاء وطلبت منهم أن يعملوا مثله ويحتذوا به. وكنت أقول لهم : إن شيخي لا يقول قولاً ولا يعمل عملاً إلا عليه دليل من القرآن والسنة فعليكم به، حتى لا يفوتكم الخير الكثير.
وكان من نتائج هذا الذكر المتواصل لشيخي أمام أفراد أسرتي، أنهم كلهم كانوا يحبون شيخي ويتابعون أخباره وجهوده وجهاده. وقد رأت أهلي فيما يراه النائم قبل أكثر من عشر سنوات أنها تقدم طعاماً لشيخي في بيتي، وطلبت مني أن أسأل العلماء تعبير هذه الرؤيا، فقلت لها: السكوت أفضل حتى لا أتهم بغرض مادي، فقد أحببناه لله، وظاهر الرؤيا يشير إلى الخير.
ولذا كان خبر وفاة شيخي له وقع عظيم على أفراد أسرتي، وساد وجوم شديد على بيتي لعدة أيام. فرحم الله شيخي ومرشدي، وجزاه عنا كل خير وأسكنه الفردوس الأعلى، إنه سميع قريب.
وقد زرته في مستشفى الهداء مساء يوم الأحد وقبلت جبينه ثلاث مرات، فاهتز –رحمه الله- مما رآني أعمل. وبعد دقائق سألني عن أولادي، والغرفة فيها كثيرون، فكدت أن لا أتمالك نفسي من شدة جيشان العاطفة، فخرجت ودموعي لا تكاد تقف. ثم زرته في المرة الأخيرة مساء يوم الثلاثاء، أي المساء الذي طلب فيه من أبنائه أن يعيدوه إلى منزله. فلما مسكت رأسه بيدي وقبلت جبينه الشريف، ناداني باسمي، ولم يقل شيئاً وصوته وأسلوبه أسلوب الذي يودع، فألقي في قلبي أن شيخي أزف رحيله من هذه الدنيا بعد عمر مديد ملئ بالجهاد لإعلاء كلمة الله في العالم.
وهكذا كان، فقد سافرت مساء يوم الأربعاء لزيارة أولادي في الرياض، وفي تلك الليلة فارق الدنيا وهمومهما وانتقل إلى الرفيق الأعلى، ويرجى له الخير بشهادة الأمة الإسلامية قاطبة في هذا العصر. فرحمك الله يا أبا عبدالله وأسكنك فسيح جناته، وأخلفك في دعوتك وجهادك خير تلاميذك والعلماء الذين تربوا بين يديك.
مكانته بين علماء العصر وبعض مزاياه
إن هذه العجالة لا تسع لذكر جميع صفاته الحميدة ومزاياه الكريمة، كما أنني أعترف بأن قلمي عاجز عن بيان تلك الصفات والمزايا التي ك ان الله قد وهب شيخي رحمه الله. وإني على يقين أنه ستكتب عنه صحائف وتؤلف كتب عن حياته ودعوته وجهاده في كثير من اللغات الحية في العالم. ولكني أذكر هنا بعض ما قاله عنه الدعاء والعلماء الفضلاء في حياته وبعد وفاته، فقد قالوا :
1- إنه شيخ الإسلام والمسلمين في هذا الزمان. 2- وإنه إمام أهل السنة في هذا العصر. 3- وإنه مجدد هذا الدين في هذا القرن. 4- وإنه لم يأت مثله منذ أربعة قرون ماضية. 5- وإنه إمام السلفيين في العالم. 6- وإنه أمير الجهاد الإسلامي في العالم، حيث قاد كل حركة جهادة في العالم وهو في المملكة.
وحقاً إنه كل ما قيل عنه في الجرائد والمجلات والكتب التي ألفت عنه، وإنه أكثر وأكثر مما قيل عنه. وقد تأسى بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله ومعاملته مع ربه ومع الناس، حتى اجتمعت فيه جميع الصفات التي ذكرتها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وطمأنته عندما خاف صلى الله عليه وسلم أن يصيبه شر بعد عودته من غار حراء، وقالت بالحرف الواحد: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل (أي تنفق على الضيف واليتيم والعيال) وتكسب المعدوم( أي تكسب المال العظيم الذي يعجز عنه غيرك، وتجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم) وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
وقد أكرمه الله بموت النبيين والاولياء والصالحين، إذ فاضت روحه إلى خالقها ولسانه رطب بذكره. وهذه نعمة لا يعطيها الله إلا لعباده الأصفياء، وعندها يقول الملائكة مخاطباً إياهم : يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. فرحم الله شيخي وجعله في جنات الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه قريب مجيب. وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.