Would you like to react to this message? Create an account in a few clicks or log in to continue.



 
HomeHome  Latest imagesLatest images  RegisterRegister  Log inLog in  

 

 وقفات مع قصة آدم عليه السلام

Go down 
AuthorMessage
r.madrid_cr7

r.madrid_cr7


لمُسَــاهَمَـــاتْ : 1265 Male العمر : 29 مزاج : وقفات مع قصة آدم عليه السلام Pi-ca-53
تاريخ التسجيل : 28/10/2008

وقفات مع قصة آدم عليه السلام Empty
PostSubject: وقفات مع قصة آدم عليه السلام   وقفات مع قصة آدم عليه السلام EmptyFri 26 Mar أƒ 0:04


وقفات مع قصة آدم عليه السلام





بسم الله الرحمن الرحيم
يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات ، وهذه المناسبات التي
يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة ، والحلقة التي تعرض منها ،
والصورة التي تأتي عليها ، والطريقة التي تؤدى بها ؛ تنسيقا للجو الروحي والفكري
والفني الذي تعرض فيه ، وبذلك تؤدي دورها الموضوعي ، وتحقق غايتها النفسية ، وتلقي
إيقاعها المطلوب .


ويحسب أناس أن هنالك تكرارا في القصص
القرآني ؛ لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى ، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد
أنه ما من قصة ، أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة ، من ناحية القدر الذي يساق
، وطريقة الأداء في السياق ، وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ، ينفي
حقيقة التكرار

ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث
أو تصرفا فيها ، يقصد به إلى مجرد الفن - بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع - ولكن
الحق الذي يلمسه كل من ينظر في هذا القرآن ، وهو مستقيم الفطرة ، مفتوح البصيرة ،
هو أن المناسبة الموضوعية هي التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل موضع ، كما
تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء .

والقرآن كتاب دعوة ، ودستور نظام ، ومنهج
حياة ، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ ، وفي سياق الدعوة يجيء القصص
المختار ، بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق ، وتحقق الجمال الفني
الصادق ، الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق ، ولكن يعتمد على إبداع العرض ، وقوة
الحق ، وجمال الأداء .

وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان
في طريقه الممتد الواصل الطويل ، ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها
جيلا بعد جيل ؛ كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر ،
وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم . . وتتبع هذا
الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضا ونورا وشفافية ؛ ويشعره بنفاسة
هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود ، كذلك يكشف عن حقيقة التصور
الإيماني ، ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة . . ومن ثم
كان القصص شطرا كبيرا من كتاب الدعوة الكريم

فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما
وراءها من إيحاءات أصيلة :

الدرس الأول : استخلاف آدم في الأرض
على عهد من الله وشرط .

ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات
الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية
الأولى : " وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض
خليفة " وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا
الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز
مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف
ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كله - بإذن
الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .

وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات
الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز
وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية
.

وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس
التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه
وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان
على صخرة الكون الضخمة !

وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ،
في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه
الكريم .

هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: "
إني جاعل في الأرض خليفة . . " حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ،
ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك
العريض ! " قالوا:أتجعل فيها
من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ "
.

ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من
شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن
شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض ؛ وما يجعلهم يعرفون أو
يتوقعون أنه سيفسد في الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة
البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد
الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى للخلق .
. وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن
عبادته ! .

لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا في بناء
هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس
الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة الله في أرضه ، هذا الذي قد
يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير
أكبر وأشمل ، خير النمو الدائم ، والرقي الدائم ، خير الحركة الهادمة البانية . خير
المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك
الكبير .

عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ،
والخبير بمصائر الأمور : " قال:إني أعلم ما لا
تعلمون ، وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ،
فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا . إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم أنبئهم بأسمائهم . فلما أنبأهم
بأسمائهم ، قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السموات والأرض ، وأعلم
ما تبدون وما كنتم تكتمون "

ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات
الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من
ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلمه مقاليد
الخلافة ، سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، سر القدرة على تسمية الأشخاص
والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة
.

وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على
الأرض ، ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يوهب الإنسان القدرة
على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي
يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . .
الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل
. فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا
سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا
تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن
القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .

فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ،
لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم ، ومن ثم لم توهب لهم ، فلما علم الله آدم هذا السر
، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء ، لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية
للأشياء والشخوص . . وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم ، والاعتراف بعجزهم ،
والإقرار بحدود علمهم ، وهو ما علمهم . . وعرف آدم . . ثم كان هذا التعقيب الذي
يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم : " قال:ألم أقل لكم:إني أعلم
غيب السموات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ؟"
.

" وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم .
فسجدوا ..." إنه التكريم في أعلى صوره ، لهذا
المخلوق الذي يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على
الملائكة ، لقد وهب سر المعرفة ، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق .
. إن ازدواج طبيعته ، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه ، واضطلاعه
بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا كله بعض أسرار تكريمه
.

ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي
الجليل . " . إلا إبليس أبى واستكبر وكان من
الكافرين " وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة:عصيان
الجليل سبحانه ! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله ، والعزة بالإثم ، والاستغلاق عن
الفهم .

ويوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس
الملائكة ، إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم الأولى أنهم " لا يعصون
الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ." والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم ،
فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء ، كما تقول:جاء بنو فلان إلا أحمد ،
وليس منهم إنما هو عشيرهم ، وإبليس من الجن بنص القرآن ،
والله خلق الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة
.

والآن . لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة ،
المعركة بين خليقة الشر في إبليس ، وخليفة الله في الأرض ، المعركة الخالدة في ضمير
الإنسان ، المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده
مع ربه ، وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته ، ويبعد عن
ربه : " وقلنا:يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا منها رغدا حيث
شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين .
"

لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة . . إلا شجرة
. . شجرة واحدة ، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض . فبغير
محظور لا تنبت الإرادة ، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق ، ولا يمتحن
صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط ، فالإرادة هي مفرق الطريق ، والذين
يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة ، ولو بدوا في شكل الآدميين !
" فأزلهما الشيطان عنها ، فأخرجهما مما كانا
فيه" .

ويا للتعبير المصور: أزلهما . . إنه لفظ
يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة
، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي ! عندئذ تمت التجربة:نسي آدم عهده ،
وضعف أمام الغواية ، وعندئذ حقت كلمة الله ، وصرح قضاؤه : "
وقلنا:اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى
حين . " وكان هذا إيذانا بانطلاق
المعركة في مجالها المقدر لها ، بين الشيطان والإنسان إلى آخر الزمان
.

ونهض آدم من عثرته بما ركب في فطرته ،
وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها ويلوذ بها "
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم
" وتمت كلمة الله الأخيرة ، وعهده الدائم مع آدم وذريته ، عهد
الاستخلاف في هذه الأرض ، وشرط الفلاح فيها أو البوار " قلنا:اهبطوا منها جميعا ،
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
".

وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل
، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر ، وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف
ينتصر إذا شاء الانتصار ، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار . .
.

دروس واستنباطات من قصة آدم :
وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة . قصة
البشرية الأولى ، لقد قال الله تعالى للملائكة: " إني جاعل في الأرض
خليفة . ." وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ، ففيم إذن كانت تلك
الشجرة المحرمة ؟ وفيم إذن كان بلاء آدم ؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض ، وهو
مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ؟

لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا
الخليفة وإعدادا ، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه ، كانت تدريبا له على تلقي
الغواية ، وتذوق العاقبة ، وتجرع الندامة ، ومعرفة العدو ، والالتجاء بعد ذلك إلى
الملاذ الأمين .

إن قصة الشجرة المحرمة ، ووسوسة الشيطان
باللذة ، ونسيان العهد بالمعصية ، والصحوة من بعد السكرة ، والندم وطلب المغفرة . .
إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكررة !
.

لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط
إلى مقر خلافته ، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا ، استعدادا للمعركة
الدائبة ، وموعظة وتحذيرا . .

وبعد . . مرة أخرى . . فأين كان هذا الذي
كان ؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان ؟ ومن هم الملائكة ؟ ومن
هو إبليس ؟ . . كيف قال الله تعالى لهم ؟ وكيف أجابوه ؟ . .
.

هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب
الذي استأثر الله تعالى بعلمه ؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه
وطبيعته ، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به ، بالأداة التي وهبهم إياها
لخلافة الأرض ، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب ، وبقدر ما سخر
الله للإنسان من النواميس الكونية وعرفه بأسرارها ، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب ،
فيما لا جدوى له في معرفته .

وما يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما
فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا ، ولا يملك بأي
أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة ، وهل النفس الذي
خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه ؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر ؛ لأنه لا
يدخل في مقتضيات الخلافة ، بل ربما كان معوقا لها لو كشف للإنسان عنه ! وهنالك
ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان ، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا
الله .

ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه ،
لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره ، وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو
جهد ضائع ، ذاهب سدى ، بلا ثمرة ولا جدوى.

وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة
للاطلاع على هذا الغيب المحجوب ؛ فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر . . فالإنكار حكم
يحتاج إلى المعرفة ، والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل ، وليست في طوق وسائله ، ولا
هي ضرورية له في وظيفته !

إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر
بالغ الخطورة ، ولكن أضر منه وأخطر التنكر للمجهول كله وإنكاره ، واستبعاد الغيب
لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في
المحسوس وحده ، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق .

فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه ، وحسبنا ما يقص
لنا عنه ، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا ، ويصلح سرائرنا ومعاشنا ، ولنأخذ
من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية ، ومن تصور للوجود وارتباطاته ، ومن
إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى
.

وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر
بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا مجملا سريعا
.
إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما
وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره
في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود ، وللقيم التي يوزن بها ، ثم لحقيقة ارتباطه
بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه .
.

وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها
التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، أنه
مخلوق ليكون خليفة في الأرض ؛ كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له، وفي طرد إبليس
الذي استكبر وأبى ، وفي رعاية الله له أولا وأخيرا .

ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات
ذات قيمة كبيرة في عالم التصور ، وفي عالم الواقع على السواء
.

وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن
الإنسان سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو
إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا ، ولا
يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . . لا
يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أية قيمة من
قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو تكثير أي عنصر مادي . .
فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله ، من أجل تحقيق إنسانيته ، من أجل
تقرير وجوده الإنساني ، فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية
، أو نقص مقوم من مقومات كرامته .

والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في
الأرض هو الدور الأول ، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ؛ وهو الذي
يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج، ولا توزيع الإنتاج ، هي التي تقود
الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان
وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر ! .

إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان
بخلافته في الأرض ، عاملا مهما في نظام الكون ، ملحوظا في هذا النظام ،
فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السموات ، ومع الرياح ، ومع الأمطار ، ومع
الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض
، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . . فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور
الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا تسمح له أن يتعداه ؟
!

وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة
المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ؛ وطبيعة احترام
المقومات الإنسانية أو إهدارها ؛ وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما
نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير
الإنتاج المادي وتكثيره إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة
دوره في هذه الأرض ! .

كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى
حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل
الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته ، فهذه هي القيم التي يقوم
عليها عهد استخلافه: " فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون . . ." وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع إن من مفهوم
الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ، ولا تطغى على تلك
القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة
في حياته ، بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ، وإهدار
لكل القيم الأدبية ، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع
ومطالب البطون كالحيوان ! .

وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة
في الإنسان فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك
الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته ، وعدم الخضوع
لشهواته ، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط
من عليائه ، بتغليب الشهوة على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان العهد الذي
يرفعه إلى مولاه ، وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه ، يضاف إلى عناصر
التكريم الأخرى ، كما أن فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ،
والرفعة والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق
!

وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين
الإنسان والشيطان ذكر دائم بطبيعة المعركة ، إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين
الإيمان والكفر ، بين الحق والباطل ، بين الهدى والضلال . . والإنسان هو
نفسه ميدان المعركة ، وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها ، وفي هذا إيحاء دائم له
باليقظة ؛ وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان ؛ وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في
هذا الميدان ! .

وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة
والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية ، في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا
غموض . . ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة
- وليس هنالك تكفير لاهوتي ، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - [ ابن
الله بزعمهم ] قام به بصلبه ، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ! . . كلا ! خطيئة آدم
كانت خطيئته الشخصية ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة ، وخطيئة
كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور
مريح صريح ، يحمل كل إنسان وزره ، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس
والقنوط . . إن الله تواب رحيم . .


هذا طرف من إيحاءات قصة آدم -
في هذا الموضع - نكتفي به .. . وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة ؛ وثروة
من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة ؛ وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور
اجتماعي وأوضاع اجتماعية ، يحكمها الخلق والخير والفضيلة ، ومن هذا الطرف نستطيع أن
ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي ؛ وإيضاح القيم التي
يرتكز عليها ، وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله ، متجه إلى الله ، صائر إلى
الله في نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله ، والتقيد
بمنهجه في الحياة ، ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله ،
أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان ، وليس هناك طريق ثالث . . إما
الله وإما الشيطان ، إما الهدى وإما الضلال ، إما الحق وإما الباطل ، إما الفلاح
وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة
الأولى ، التي تقوم عليها سائر التصورات ، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان
.
منقووووووووووووووووووووووووول
Back to top Go down
 
وقفات مع قصة آدم عليه السلام
Back to top 
Page 1 of 1
 Similar topics
-

Permissions in this forum:You cannot reply to topics in this forum
 :: القسم الاسلامي :: ـاسلاميات عامة-
Jump to: