قصة سبأ
موقع القصة في القرآن الكريم:
ورد ذكر القصة في سورة سبأ الآيات 15-19.
قال الله تعالى، في سورة "سبأ":
" لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ".
القصة:
قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق : اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا : وكان أول من سبى من العرب فسمي سبأ لذلك ، وكان يقال له : الرائش لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه. قال السهيلي : ويقال : إنه أول من تتوج. وذكر بعضهم أنه كان مسلما وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله :
ســيملك بعدنــا ملكــا عظيمـا ... نبــي لا يرخــص فـي الحـرام
ويملــك بعــده منهــم ملــوك ... يدينـــون العبـــاد بغــير ذام
ويملــك بعـدهم منـا مـا ملـوك ... يصــير الملــك فينــا باقتسـام
ويملــك بعــد قحطــان نبــي ... تقـــي جبينــه خــير الأنــام
يســمى أحــمدا يــا ليـت أنـي ... أعمـــر بعــد مبعثــه بعــام
فـــأعضده وأحــبوه بنصــري ... بكـــل مدجـــج وبكـــل رام
متــى يظهــر فكونـوا ناصريـه ... ومــن يلقــاه يبلغــه ســلامي
حكاه ابن دحية في كتابه " التنوير في مولد البشير النذير ".
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبائي عن عبد الرحمن بن وعلة سمعت عبد الله بن العباس يقول : إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو ؟ أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال : بل هو رجل ، ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة ، فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان ، وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي هو السائل عن ذلك كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظهن هناك ولله الحمد.
والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها ، وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن واحدهم تبع وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك ، وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت تبعا ، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر ، ومن ملك الفرس كسرى ومن ملك مصر فرعون ، ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الهند بطليموس ، وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس ، وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام وقد كانوا في غبطة عظيمة وأرزاق دارة وثمار وزروع كثيرة وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار .
كان "سبأ بن يشجب" رجلاً عربيًّا كريمًا مسلما، يجودُ على الناس بعطاياهُ ولا يبخُلُ، وذُكر أنه أول من لبِس التاجَ، وكانَ لهُ شِعرٌ بشَّر فيه بمقْدِم وظهور رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ومنه:
وكان له عشرةُ أولادٍ فتفرقوا، ستةٌ منهم قصدوا "اليمن" وبَنوْها، وأربعةٌ رحلوا إلى الشام وتكاثروا فيها.
وخرج من بين اليمنيينَ: التبابعةُ" وهم ملوكُ "اليمن" وأحدهم "تُبَّعٌ" يَلبسونَ التيجانَ وقتَ الحكمِ، وعاشوا في غِبطةٍ عظيمةٍ وأرزاقٍ وثمارٍ وزروعٍ كثيرةٍ، ولكن كانت أوديتُهُم شحيحةً بالماءِ، مقفرةً من الأنهارِ، فألجأتهُمُ الحاجةُ إلى أن يصنعوا شيئًا يجمعونَ بهِ سيولَ المطرِ التي كانت تهطُلُ في أوقاتٍ معينةٍ، لينتفعوا بها فألهمهم الله طريقةَ بناءِ السدودِ والحواجزِ، يُقيمونَها بين الأوديةِ، للانتفاعِ بما تُخَلِّفُه وراءَها من مياه.
وكان سدُ "مأْرِبٍ" أقواها وأمتنها وأنفعَها، وأول من بناهُ "سبأ" وسلَّط إليه سبعينَ واديًا تَفِدُ إليهِ مياهُها، وماتَ ولم يُكْمِلْ بناءَه فأكملتْهُ الملوكُ بعدَه وكان ءاخرَ من أتمَّه "بلقِيسُ" قبل أن تقابل سيدَنا "سليمان" عليه السلامُ، ولإتمامِ السدِ خبرٌ يقولُ إنه لما ملكتْ "بلقيس" اقتتلَ قومُها على ماءِ واديهم، إذ لم يكن السدُّ قد انتهى بعدُ، فتركَتْ مُلْكَهَا وسكنت قصرَها، وطلبوا منها أن ترجع فأبتْ فقالوا: "إما أن ترجعي أو نقتُلَكِ!" فقالت لهم: "أنتم لا عقولَ لكم، ولا تُطيعونني"، فقالوا: "نُطيعُكِ".
فرَجَعَت إلى واديهم وعكفت على إنهاءِ السدِ، وجلبتِ الصخورَ والزِفْتَ الأسودَ، ومكَّنتِ السدَّ بين جبلينِ عظيمين وجعلت لهُ ثلاثةَ أبوابٍ بعضُها فوقَ بعضٍ وبنتْ تحتَهُ بِرْكةً ضخمةُ، وجعلت فيها اثني عشرَ مخرجًا على عددِ أنهارِهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنَوْا عنه سدُّوها، فإذا جاءهمُ المطرُ اجتمعَ إليهم ماءُ أوديةِ "اليمن" فاحتُبِسَ السيلُ من وراءِ السدِ الضخمِ.
ثم لما كانتِ الحاجةُ تشتدُ تأمرُ فيُفتَحُ البابُ الأعلى وتجري المياه إلى البِركةِ، فكانوا يُسْقَوْنَ من البابِ الأعلى ثم من الثاني الأوسط ثم من الثالث الأسفلِ، فلا ينفدُ الماءُ حتى يأتي الماءُ من السنةِ المقبلةِ، فكانت تَقْسِمُه بينهم على ذلك.
وصارت رمالُ الصحراءِ بُسُطًا هندسيةً خضراءَ، تجري بينها القنواتُ الملتويةُ، وتصدحُ بين أغصانِها البلابلُ المغرِدةُ، وتمتلىءُ أشجارُها بالأثمارِ النَّضرَةِ والأزهارِ الملونةِ.
وكانت بلدتُهم طيبةً كريمةَ التربةِ، عامرةً بالخُضْرَةِ، وكان من صفاءِ هوائِها ونقاوتِه أنهم لم يَرَوْا في بساتينِهِم بَعوضةً قطّ، ولا ذبابًا ولا برغوثًا ولا قملةً ولا عقربًا ولا حيةً ولا غيرَها من الهوامِ أي الحشراتِ المؤذيةِ، ولا تتعبُ دوابُهم، وإذا جاءتْهُمْ قافلةٌ وفي ثيابِهِم ودوابِّهم قملٌ ونحوُه ووصلوا إلى تلكَ البساتينِ النقيةِ ماتت تلك القملُ لساعتِها.
وكان من غزارةِ ما تُعطي تلك البساتينُ أن المرأةَ كانت تخرجُ معها مَغْزِلها وعلى رأسها وعاءٌ من قشٍ فتلتهي بمغزَلِها، وتمشي بين الأشجارِ المثمرةِ فلا تأتي بيتَها حتى يمتلىءَ وعاؤُها من كلِ الثمارِ من كثرتِهِ على الشجرِ من غيرِ أن تمسَّها بيدِها.
وزيادةً على هذا النعيمِ الخاصِ بهم أصلحَ الله لهم البلادَ المتصلةَ بهم، وعَمَرَها وجعلهم أصحابَها وضيَّقَ السيرَ بأن قرَّبَ القُرى بعضَها من بعضٍ، حتى كان المسافرُ من "مأْرِبٍ" إلى الشامِ يبيتُ في قريةٍ ويرتاحُ في أخرى، ولا يحتاجُ إلى حَمْلِ زادٍ حتى يصلَ مقصودَه، ءامنًا من عدوٍ وجوعٍ وعطشٍ وءافاتٍ تضرُ بالمسافرِ. وقُدرت هذه القرى المتصلةُ بأربعةِ ءالافٍ وسبعمائةِ قريةٍ بورك فيها بالشجرِ والثمرِ والماءِ بحيث تظهرُ القريةُ الثانية من الأولى لِقُربِها منها.
ولما طالت بهم مدةُ النعمةِ سئموا الراحةَ ولم يصبروا على العافيةِ، تمنَّوْا طولَ الأسفارِ وقالوا: "لو كان جَنْيُ ثمارِنا أبعدَ، لكانَ أشهى وأعلى قيمةً". فتمنَّوْا أن يجعلَ الله بينهم وبين الشام صحارى شاسعةً ليركبوا النياقَ المحمَّلةَ، ويتزودوا بالزادِ كغيرِهم، وانتشرَ البَطَرُ والطُغيانُ والكفرُ بالله حيث بدأت عبادةُ الشمسِ من دونِ الله.
فأرسلَ الله إليهم ثلاثةَ عَشَرَ نبيًّا، فدعوهم إلى الله تعالى وتوحيدِهِ وتركِ الكفرِ، وذكَّروهم نعمةَ الله عليهم وأنذروهم عقابَهُ، فكذَّبوهم وقالوا والعياذُ بالله: "ما نعرفُ لله علينا نعمةً، فقولوا لربِكم فليحبِسْ هذه النعمةَ عنا إن استطاعَ ذلك".
وتجري في هذه الأثناء قصةُ التقاءِ سيدِنا "سليمانَ" بملكةِ "سبأ" "بلقيس" حيث دعاها إلى الإسلامِ فأسلمتْ هي وقومُها، ثم بعدَها بسنينَ حصلَ الكفر مجددًا، ومنه ما حدث مع شخصٍ منهم اسمُه "حمارٌ" كان له ولدٌ فماتَ فاعترضَ على اللهِ والعياذُ باللهِ تعالى ورفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وبَصَقَ وقال: "لا أعبدُ ربًّا قتلَ ولدي" وكفرَ كفرًا شنيعًا، وصار لا يمُرُّ بأرضه أحدٌ إلا دعاهُ إلى الكفرِ فإن أجابَهُ تركَهُ وإلا قتلَهُ.
فأنزلَ الله عليه صاعقةً أحرقتْه ودمَّرت وادِيَه حتى صارَ خَربًا ومَرْتَعًا للجنِ، أما قومُهُ فإنهم تمادَوْا في الكفرِ تماديًا
فظيعًا ولم يلتفتوا إلى كلامِ الأنبياءِ الذينَ نصحُوهم، وازدادوا إعراضًا، ولم يقابلوا الهدَى والإرشادَ إلا بوضعِ الأصابعِ في الأذنينِ، وبالاستكبارِ والانصرافِ إلى العملِ وبناءِ البيوتِ، فأرادَ اللهُ أن يُذيقَهم شرَّ أعمالِهم وأن يُريَهُم عاقبةَ كفرِهم، ليكونوا عبرةً لغيرِهم، وعقوبةً قاسيةً لمن تحدثُه نفسُه أن يسلُك طريقَهم، ويفعلَ فِعلَتَهم.
فسلَّطَ عليهم دابةً صغيرةً اسمُها "الخُلْدُ" وهو حيوانٌ لا يُبصرُ، ولكنهُ ذو أسنانٍ ومخالبَ حادةٍ جدًا، فجاءَ منهُ الألوف وحفروا تحت أساساتِ السدِ بشكلٍ متواصلٍ، وكان خلفَه كمياتٌ ضخمةٌ جدًا من الماءِ المتجمعِ، وما هي إلا ساعاتٌ حتى تدفقتِ المياهُ سيولاً جارفةً تهدمُ ما هو أمامَها، وتُغرِقُ الناسَ في بيوتِهم وتدمِرُها، حاملةً معها أطنانًا من الطينِ والأحجارِ، فخابَ كيدُ الكافرينَ وانتقمَ الله من الظالمين.
تهدَّمَ السدُ، وانهار البناءُ، ولم يعدْ يحجزُ السيولَ المتدفقةَ، والأمواجَ المتلاطمةَ، وانطلقتِ المياهُ الحبيسةُ في شعابِ الوادي وبين الأشجارِ، فغرقَ الزرعُ، وهلَكَ الضَّرْعُ، وعادَ الوادي كما كانَ صحراءَ مقفرةً صامتةً، لا نباتَ فيها سوى أشجارٌ لا تثمرُ إلا كلَّ مُرٍ بشعٍ وبعضَ الأنواعِ التي لا نفعَ فيه، وهربتِ العصافيرُ والبلابلُ.
وأتى البومُ يصيحُ فوقَ الخرائبِ، وحلَّقتِ الغِربانُ تنعقُ على الأغصانِ الجافةِ. ومن بقيَ من الناسِ فإنهم لم يطيقوا صبرًا على أن يُقيموا في صحراءَ كانت بالأمسِ بساتينَ عامرةً، ففارقوها ونزحوا عنها بقلبٍ يبكي دمًا، ثم تفرَّقوا في شتى البلادِ حتى صارَ أمرُهم حديثًا يتنقَّلُ وحكاياتٍ تُروى، حيث كانوا في نعمةٍ سابقةٍ فلم يحفظوها، فجزاهم الله بما كفروا.
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا ، وزعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي ، فالله أعلم.
والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى إلى الضلال ، وسجدوا للشمس من دون الله ، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضا ، واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم كما قال تعالى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ .
ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة ، وزرعوا الزروع الكثيرة ، ويقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء ومات ولم يكمل بناؤه فكملته حمير بعده ، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فيمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث ولا الدواب الموذية لصحة هوائهم وطيب فنائهم
كما قال تعالى
(( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ))
وكما قال تعالى(( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ))
فلما عبدوا غير الله وبطروا نعمته وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم وطيب ما بينها من البساتين وأمن الطرقات سألوا أن يباعد بين أسفارهم وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل فسلبوا تلك النعمة العظيمة والحسنة العميمة بتخريب البلاد والشتات على وجوه العباد كما قال تعالى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ قال غير واحد : أرسل الله على أصل السد الفار ، وهو الجرذ ويقال : الخلد . فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير فلم تغن شيئا إذ قد حم القدر ولم ينفع الحذر كلا لا وزر ، فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار فسلك الماء القرار ، فقطعت تلك الجداول والأنهار ، وانقطعت تلك الثمار ، وبادت تلك الزروع والأشجار ، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار
كما قال العزيز الجبار وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : هو الأراك وثمره البرير ، وأثل وهو الطرفاء وقيل : يشبهه وهو حطب لأثمر له وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وذلك لأنه لما كان يثمر النبق كان قليلا مع أنه ذو شوك كثير ، وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل : لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ، ولهذا قال تعالى ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور
َ أي : إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا وكذب رسلنا وخالف أمرنا وانتهك محارمنا وقال تعالى فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ وذلك أنهم لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم احتاجوا أن يرتجلوا منها وينتقلوا عنها فتفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبأ شذر مذر ، فنزلت طوائف منهم الحجاز وهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة وكان من أمرهم ما سنذكره ، ومنهم المدينة المنورة اليوم ، فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود : بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير فحالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم ، وكان من أمرهم ما سنذكره ، ونزلت طائفة أخرى منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما.
قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال : قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة وهو ميمون بن قيس
وفـــي ذاك للمؤتســى أســوة ***ومــأرم عفــي عليهــا العـرم
رخـــام بنتــه لهــم حــمير ***إذا جـــاء مــواره لــم يــرم
فـــأروى الـــزرع وأعنانهــا ***عــلى ســعة مــاءهم إذ قسـم
فصـــاروا أيــادي لا يقــدرون ***عـلى شـرب طفـل إذا مـا فطـم
وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب " السيرة " أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ ويقال : لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ قاله ابن هشام قال ابن إسحاق وكان سبب خروجه من اليمن ، فيما حدثني أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم
فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه فأمر أصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ففعل ابنه ما أمره به فقال عمرو : لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي وعرض أمواله فقال أشراف من أشراف اليمن : اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله وانتقل في ولده ، وولد ولده وقالت الأزد : لا نتخلف عن عمرو بن عامر ، فباعوا أموالهم وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان فحاربتهم عك فكانت حربهم سجالا ففي ذلك قال عباس بن مرداس
وعـك بـن عدنـان الـذين تلعبـوا
بغسـان حـتى طـردوا كـل مطرد
قال : فارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب ونزلت خزاعة مرا ونزلت أزد السراة السراة ونزلت أزد عمان عمان ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه وفي ذلك أنزل الله هذه الآيات وقد روي عن السدي قريب من هذا وعن محمد بن إسحاق في رواية أن عمرو بن عامر كان كاهنا ، وقال غيره كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة فأخبرت بقرب هلاك بلادهم وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم ، ففعلوا ما فعلوا والله أعلم وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة فيما رواه ابن أبي حاتم في " التفسير ".